«جنة ميت أبوالكوم».. هنا بدأت «أخلاق القرية».. هنا ولد السادات
منزل عائلة السادات فى ميت أبوالكوم
هنا قرية «ميت أبوالكوم»، مركز تلا، محافظة المنوفية، التى شهدت مولد الرئيس الراحل محمد أنور السادات والتى تتميز باختلاف كبير عن باقى قرى الجمهورية من حيث طبيعة المبانى وبساطتها وانتشار المبانى بالطوب الحجرى منذ سبعينات القرن الماضى وطبيعة الأهالى الذين يعمل عدد كبير منهم فى مجال الزراعة ورغم ذلك يحتفظ الأهالى بذكرياتهم عن عصر الرئيس السادات الذى يضرب به المثل فى البساطة والارتباط بالقرية والتواضع، فمن الممكن أن تمتد مناقشة بسيطة عن اتفاقية السلام أو قرار السادات بزيارة القدس لساعات طويلة مع الأهالى الذين عاصروا الحرب بالأرقام والحقائق كدليل دامغ على ثقافة أهالى ميت أبوالكوم.
فى صبيحة يوم 25 من ديسمبر عام 1918، رُزقت «ست البرين» المصرية من أصول سودانية بطفل، بعد زواجها من مصرى يعمل فى المعسكر الطبى البريطانى بالسودان لتكون هى زوجته الثالثة وأنجب منهن جميعاً 13 ولداً وبنتاً، كان هذا «محمداً»، الذى نصبه التاريخ زعيماً وبطلاً للحرب والسلام، فقد نشأ الطفل الوليد فى أجواء مشتعلة بعد ثورة 1919 وقبلها حادث مذبحة دنشواى الشهيرة التى تبعد عن قريته عدة كيلومترات، فتربى على قصص زهران ورفاقه الذين تم إعدامهم أمام ذويهم بالإضافة إلى سجن وجلد العشرات فى محكمة صورية شكلت أكبر جرائم الاحتلال الإنجليزى فى مصر.
«السادات» كان مغرماً بزيارة أضرحة آل البيت ومنها مقام سيدى أحمد البدوى فى طنطا ومقام سيدى شبل بمدينة الشهداء ولم تنقطع زيارته لهما حتى بعد وصوله إلى سدة الحكم عام 1970 وحافظ على علاقته بمسقط رأسه حتى تم اغتياله فى عام 1981.
تبرع بقيمة «نوبل» وعائد بيع «البحث عن الذات» لتطوير القرية.. وبنى قصراً على مساحة 11 فداناً لاستضافة زعماء وشخصيات عالمية
«الوطن» زارت ميت أبوالكوم فى الذكرى المئوية لمولده للبحث عن جزء من نشأته الريفية التى ترسخت فى وجدانه بمراحل ومحطات مختلفة أولها الأوضاع المعيشية الصعبة حيث بدأ حياته فى منزل بسيط ما زال قائماً ويسكنه حالياً أحد أقاربه، المنزل له بوابة خشبية متواضعة ومكون من طابقين بعدما كان فى السابق طابقاً واحداً يقع فى منتصف القرية بشارع ضيق متفرع من الشارع الرئيسى، هنا عاش السادات سنوات طفولته قبل أن يغادر مع والده إلى القاهرة عقب عودته من السودان لتبدأ رحلته إلى السلطة والحكم بعد إطاحة الضباط الأحرار بالملك فاروق فى ثورة 52 التى ألقى السادات بيانها الأول مستعيناً بلغته القوية التى اكتسبها من الشيخ عبدالحميد عيسى الذى حفظ القرآن على يديه، وكان الرئيس الراحل متعلقاً به لدرجة كبيرة، حيث قطع مشاركته فى مؤتمر كان يحضره بالسودان، وعاد للقاهرة، لتشييع جنازة شيخه وبدأ بزوغ نجم السادات وتدرج فى مناصب عدة إلى أن وصل إلى كرسى الحكم بعد وفاة الزعيم الراحل جمال عبدالناصر ليبدأ معركة تحرير الأرض.
السادات كان حريصاً طوال حياته وقبل وصوله إلى رئاسة الجمهورية على توطيد علاقته بمسقط رأسه فبنى قصره الذى استغرق عدة سنوات طويلة وبدأ بمساحة صغيرة من الأرض وخلال غضون سنوات تم ضم 11 فداناً بعد شرائها من جيرانه ليتشكل فى النهاية القصر الضخم الذى شهد صناعة التاريخ واستضاف شخصيات غيرت مجرى التاريخ بداية من زيارات الرئيس جمال عبدالناصر وعدد كبير من الرؤساء ووزراء الخارجية وشهد اجتماعات وقرارات مصيرية غيرت مسار الصراع العربى الإسرائيلى كان أكثرها أهمية قرار طرد الخبراء السوفيت «15000 خبير» خلال أسبوع فى يوليو 1972 قبل أشهر من حرب أكتوبر.
قصر السادات هو أول ما يستقبل زوار ميت أبوالكوم وبداخله متحف يضم عدداً من المقتنيات والصور والمؤلفات. وأكد عطية عاطف، أمين المتحف، أن المتحف يفتح أبوابه مجاناً للزوار ويستقبل آلاف الزوار سنوياً ويعد مقصداً مهماً للرحلات المدرسية لتعريف الأجيال الجديدة بتاريخ مصر وحياة الزعيم الراحل أنور السادات، مشيراً إلى أن المتحف يشهد زيارات من جنسيات مختلفة عربية وأفريقية وأوروبية من محبى السادات وتم افتتاحه عام 1996، وخصصت السيدة حرمه مكاناً خاصاً بمقتنيات الرئيس الراحل، تم وضعها داخل «الغرفة الذهبية».
فى واجهة المتحف، تستقبلك صورة للرئيس الراحل، رسمها له الفنان محمد راغب، وكتب تحتها الجملة التى كان يرددها السادات دائما، «وفى النهاية لا يصح إلا الصحيح»، وعلى يمين الصورة، صورة أخرى للرئيس أثناء تناوله كوباً من ماء «زمزم»، وعلى يسارها صورة له يقبل الحجر الأسود، أثناء أداء فريضة الحج بجانب صورته مع الشيخ عبدالحميد عيسى شيخه ومحفظه القرآن الكريم بالقرية.
بالتجول داخل شوارع القرية هناك متحف آخر ظل حاضراً فى البيوت والمبانى التى أنشأها السادات وآلاف المواقف والذكريات المحفورة فى أذهان كل من عاش بالقرية فى فترة حكمه حتى وإن كان وقتها طفلاً صغيراً، طارق محمود، 55 عاماً، من أهالى القرية، قال لنا إنه كان صغيراً فى هذا الوقت ولكن لديه بعض الذكريات مع السادات سردها بقوله: «فى يوم من أيام رمضان بعد الإفطار فوجئنا بالرئيس الراحل يمر أمام البيت وكان أبى جالساً لعمل الشاى على نار الخشب والقش فجلس الرئيس لتناول الشاى معنا فقامت إحدى السيدات بإطلاق الزغاريد فالتف أهل القرية حول منزلنا وكان يوماً حافلاً كنت فرحاً به ولن أنسى الرئيس الذى أجبر العالم على احترامه بعد أن استعاد شرف الأمة». وقال شعبان محمود إبراهيم قطيط، أحد أهالى القرية، 70 سنة، إن الرئيس الراحل كان يأتى إلى القرية كثيراً ويمكث فيها كل فترة أسبوعاً أو أسبوعين وكان دائماً ما يعقد اجتماعات لبحث مشاكل أهالى القرية، مضيفاً أن محصول أرضه كان مخصصاً لسد حاجة الأهالى، فقد كان يمتلك 20 فداناً من الفاكهة يتم زراعتها لسد احتياجات الأهالى والفائض يتم بيعه.
وتابع: «من المواقف الجميلة للرئيس الراحل أنه كان عندما يمرض أحد من أقاربه فى القرية بعد أن أصبح رئيساً للجمهورية كان الرئيس يحمل الفاكهة ويذهب لزيارة المريض أو للمباركة فى الأفراح أو للعزاء فى حالات الوفاة ولم يتكبر يوماً على أحد».
وأضاف «شعبان» أنه كان يعمل بشركة الغزل سنة 1962 وقامت الشركة بعمل مرفق أوتوبيس لكل المراكز ما عدا مركز تلا وقرية ميت أبوالكوم فذهب إلى الرئيس فى أحد مجالسه وعرض عليه المشكلة، فقال لى: «زمان كنا بنلف المركز على رجلينا أو بالعجلة»، وتحولت الجلسة إلى ضحك وهزار وبعد ذلك أمر بتوفير خط أوتوبيس يخدم عمال الشركة، ومنذ هذا اليوم يوجد خط أوتوبيس يمر بالقرية والقرى المجاورة لها.
وأوضح أنه خلال زيارة الرئيس الأمريكى جيمى كارتر للقرية وأثناء تجوله مع الرئيس السادات صاح فيه أحد الأطفال وأطلق عليه مجموعة من الشتائم والسباب فاستفسر كارتر من السادات عما يقوله الطفل فأشار له أن الطفل سعيد بزيارته للقرية ويطلق له عبارات الترحيب، مضيفاً أن «معاش السادات» بدأ بواقعة من القرية عندما صدمت سيارته أحد الأطفال وأصيب بكدمات طفيفة فأمر بعلاجه على نفقته الخاصة وعندما علم أن أسرته تعيش فى حالة مادية صعبة أمر بصرف معاش شهرى ومن هنا بدأ معاش السادات لإعانة المحتاجين بكل أنحاء الجمهورية.
وأضاف «شعبان» أنه كان من عادات السادات أداء صلاة الفجر منفرداً ودون حرس حيث كان يذهب إلى المسجد الكبير بالقرية أو مسجد سيدى شبل بالشهداء لأداء صلاة الفجر ويترك الحرس نائمين وحين يخرجون للبحث عن الرئيس يجدونه أدى صلاة الفجر وفى طريقه للعودة.
وأشار إلى أن الزعيم الراحل تبرع بالمكافأة المالية من جائزة نوبل وحصيلة بيع كتابة الشهير «البحث عن الذات» لتطوير مسقط رأسه فيما بدأ بعد ذلك بإعادة بناء ميت أبوالكوم وأدخل بها المبانى الخرسانية والطوب الحجرى «نحو 300 منزل» فى وقت كانت فيه البيوت الطينية نوعاً من الرفاهية وتم البدء فى مشروع الطاقة الشمسية بكل منزل الذى تم إهماله وعادت القرية من جديد للمعاناة مثل باقى قرى الجمهورية.