كرامة لـ أم السادات «ست البرين»: النوبة للنوبيين يا كرباش
السادات وأحد أفراد أهل النوبة
بملامح تشبه ملامحهم، وسمرة تزين بشرته مثلما تزينهم، ومحبة لهم ولجذوره تتمكن من أعماقه، سكن الرئيس الراحل محمد أنور السادات قلوب النوبيين، فهو ابنهم، تعود أصوله إلى «دنقلا»، الواقعة شمال السودان، مسقط رأس والدته «ست البرين» (يقصد بالبرين، المصرى والسودانى).
تعرفت «ست البرين» على السادات، الذى كان يعمل موظفاً ضمن الفريق الطبى المرافق للجيش الإنجليزى المصرى إلى السودان، فى العام 1914، وتزوجا، وحين حملت أرسلها إلى قريته ميت «أبوالكوم» بالمنوفية، لتضع مولودها، تحت رعاية أمه، عام 1918، فى رحلة وصفها الرئيس الراحل، فى كتابه «البحث عن الذات» بأنها كانت بمثابة «رحلة الموت».
نشأ الفتى بين أحضان جدته، بعدما عادت والدته إلى السودان لتبقى مع الأب، وجذبته الحياة السياسية، وتزوج من ابنة عمدة «ميت أبوالكوم»، السيدة إقبال ماضى، وأنجب منها رقية وراوية وكاميليا، التى شهدت أول مظاهر تأثير أصول أبيها السودانية على الأسرة، حيث استقبلت الفتاة بنت الـ12 عاماً، ذات يوم، ضيفاً من طرف صديق جدها، منذ عمله فى السودان، وفوجئت به يطلب زواجها وهو ما رحب به والدها، وكان وقتها رئيساً لمجلس الأمة.
لم ينسَ السادات أصوله النوبية فى أحلك الظروف، حتى وهو يضع خطة حرب أكتوبر 1973، حيث استحسن فكرة الشاويش النوبى، أحمد إدريس، الذى اقترح استخدام اللغة النوبية كشفرة خلال الحرب، وكانت من أهم أسباب النصر.
«السادات هو أول وآخر رئيس ضرب بالفأس أرض النوبة تمهيداً للعودة»، وفقاً لما قاله الباحث النوبى حمدى سليمان لـ«الوطن»، مستطرداً: «زاد تدفق النوبيين إلى موطنهم فى عهد السادات لمعاينة الأراضى الصالحة للزراعة، وإعادة خلق مجتمع نوبى خالص، وتم إنشاء جمعية السادات الزراعية، وفتح باب الاكتتاب لها بين النوبيين».
أحب أهل النوبة وأطلقوا عليه لقب «الرئيس الزين» واستخدم لهجتهم فى الحرب فكان لها دور فاعل فى تحقيق انتصار أكتوبر
أما عن تبنى الحكومة عمليات الإعمار فيقول «سليمان»: فى 28 فبراير 1979 عقدت اللجنة الوزارية للتنمية الشعبية جلسة ضمت القيادات النوبية، الذين أبدوا آراءهم، ومن أهمها أن تكون التنمية والتعمير بأيدى وسواعد النوبيين أنفسهم.
«النوبة للنوبيين يا كرباش»، عبارة أطلقها السادات صريحة جلية فى إحدى زياراته للنوبة من العام نفسه، موجهاً حديثه للحاج «عوض كرباش»، أحد أبرز وجوه النوبة المطالبين بالعودة بعد تهجيرهم، عن تلك العبارة يقول «سليمان»: «جاء ذلك رداً على اعتراض الحاج كرباش وتخوفه من قيام وزير التعمير حينها، المهندس حسب الله الكفراوى، بإدخال عناصر غير نوبية للمشاركة فى التعمير بعكس ما تم الاتفاق عليه فى الجلسة».
يؤكد «سليمان» أن النوبيين بنوا فى عهد السادات 35 بيتاً، بقريتى قسطل وأدندان الحدوديتين: «كانت تلك البيوت بمثابة نواة للعودة إلى الموطن النوبى، فما كان من النوبيين إلا أن أهدوه واحداً منها ليكون قريباً منهم وقريبين منه، فكان يعود إليهم فى يناير من كل عام».
ويصف «سليمان» البيت قائلاً: «بيت السادات مبنى على الطراز النوبى، مساحتة 400 متر مربع، بابه خشبى، وجدرانه من الطوب اللبن، تزينها كتابات ورسومات نوبية تعبر عن الفن والتراث النوبى، ويحتوى على 6 غرف وحوش واسع ومضيفة».
يحكى زوار النوبة عن كرم أهلها وحسن استقبالهم للضيوف، لا سيما أن الضيف هو بطل الحرب والسلام، فاستقبلته السيدة زكية محمد أحمد، رائدة الحركة النسائية النوبية، ورئيسة جمعية «المرأة النوبية»، بصحبة الحاج عوض، فى أبوسمبل بابتسامة ناصعة تزين وجهها الأسمر.
وعن كواليس الزيارة تروى حفيدتها، سالى جاسر، لـ«الوطن»: «جدتى بعتت له خطاب تطلب منه زيارة للنوبة القديمة فى العيد القومى لأسوان 14 يناير، وأرسل لها موافقته بخطاب من رئاسة الجمهورية فى نوفمبر 1979، وفعلاً لبى الرئيس الدعوة فى العيد القومى للمحافظة فى 1980».
وتُكمل: «نزل السادات فى أحد بيوت قرية الجنينة والشباك، وقدمت له جدتى الأكل النوبى والبلح الشهير، كما أكمل الجولة بين بيوت النوبة الجديدة، وفى نهاية الزيارة حرص على تلبية مطالب أهالى القرية، الذين طالبوا بإنشاء طريق ممهد بين قرية ناصر وباقى القرى النوبية وتم تنفيذه بالفعل».
وفى اليوم التالى استقبله بيت نوبى بسيط تزينه الزخارف والديكورات النوبية الجميلة تحضيراً لعقد قران، حضره الرئيس الراحل بدعوة من أصحابه، كما يقول الباحث حمدى سليمان: «لبى السادات الدعوة بكل حب، واصطحب معه المهندس عثمان أحمد عثمان، الوزير الأسبق، والمهندس حسب الله الكفراوى، وزير الإسكان حينها، وكان شاهداً على عقد القران».
وفى لقطة طريفة أشار لها «سليمان» أنه خلال إتمام إجراءات عقد القران، توقف المأذون عدة ثوانٍ قبل إثبات الشهود، ولما طال الصمت بادره السادات بالسؤال: «مالك يا مولانا؟»، فابتسم الآخر خجولاً متردداً: «بطاقتك يا سيادة الرئيس!»، فضحك السادات وابتسم الحضور، وتلا عليه بياناته، التى سجلت فى وثيقة زواج العروسين.
أيقظ «الرئيس الزين»، كما يطلق عليه أهالى النوبة، بقربه وسياساته، حلم عودة النوبيين إلى أرضهم وعلقوا عليه آمالاً عريضة، لكنها اغتيلت باغتياله عام 1981، وتوقفت مشاريع التنمية، فشكل النوبيون وفداً منهم واتجهوا إلى حسب الله الكفراوى، يطالبونه باستكمال المشروعات، فقضى على ما تبقى من أحلامهم بقوله «أبوكم مات».