م الآخر| تشكيل العقلية المصرية الجديدة
لا عجب أن النظام السياسي، بطريقة أو بأخرى، يقوم بتشكيل عقلية المواطنين، فإذا ظن أحدهم أن التعليم وحده هو المسؤول عن تشكيل عقلية المواطن، إلى جانب الأسرة؛ فبالتأكيد ليس التعليم الذي يُدرس في مصر، فضلاً عن أن التعليم أصلاً كعملية تربوية يجب أن يُنسج وفقًا للنظام الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، فدعنا لا ننكر هذه الحقيقة، وهي أن النظام السياسي يشكل عقلية مواطنيه أولاً.
من أغرب الأشياء أن تجد أشخاصًا يمجّدون في ديكتاتور ما كان يقمعهم ويعذبهم، وطالما عاشوا في ولايته في فقر وجهل وحروب وشقاق، لا أعرف التسمية النفسية المناسبة لهذا الشعور، لكنه بالتأكيد ناتج عن تربية ما تلقاها هذا المواطن جعلته يرى الفقر سترًا والجهل نعمة والحرب ضرورة والتعذيب تطهيرًا، وهكذا..
وتتم هذه العملية من فترة لأخرى، ففي مصر مثلاً جاء عبدالناصر للحكم، وقد كان أول رئيس مصري - بعد محمد نجيب - يحكم مصر بعد عهود طويلة، وقام بأشياء إيجابية لا يمكن حصرها، وكانت له أيضًا بعض العيوب، لكن المواطن اعتاد ألا يرى هذه العيوب، ويرفض تمامًا أن يراه مخطئا فيما نتج عن بعض سياساته من تدهور، ومن بعده السادات الذي اعتاد أن يختلط بعامة المصريين، وأن يتحدث لهم ببساطة وقلب مفتوح، لم تكن له أيديولوجية ما خاصة به، فلم يلتف حوله الكثيرون باعتباره رمزًا، أما مبارك فهو الأمهر في عملية التشكيل بعدما بقي وحيدًا على عرش مصر لثلاثين عاما؛ فقد عمل مبارك على ضبط خلطة سياسية محكمة مكنته من البقاء، كان المواطن في عهده يشعر بالفقر والجوع، ومع ذلك يوهم نفسه بالرضا، تشوهت في عهده الطبقات، وتضاعف معدل الفقر والبطالة، ومع ذلك كان المواطن يراه يفعل ما في وسعه ويصبر عليه، والأكثر ثقافة يخشون الاستضافة في إحدى زنازينه سيئة السمعة، وفريق آخر يرفضون تمامًا القيام بعمل ثوري حتى لا تندلع حرب ما من الدول التي اعتاد أن يسمع أنها تتربص بمصر .. كان يعرف كيف يرضي جميع الأطراف!
وبعناء شديد وضحايا كثر، وثورة انطلقت كالقطر؛ أمكن تفتيت هذه التركيبة، بعدما استخدم نظامه كل المكونات السحرية التي اعتاد أن يسقيها للمواطن من خلال الإعلام والتعليم، وحتى المنبر، من خطر الإرهاب، والجواسيس الأجانب، والحكم الديني، والانفلات الأمني .. لم ينجح كل هذا بعدما استيقظ المواطن ووقف ثابتًا يرفض خداعه من جديد حتى سقط النظام، وكانت الأمنية الأغلى هي أن يتم بناء نظام جديد قائم على الشفافية وتبادل الآراء والتعاون، حتى يتحقق الصالح العام، والذي لن يكون أبدًا إلا بالاتفاق الحر على التداول للسلطة والتناول الإعلامي غير المقيد لسلبيات أي جهاز أو مسؤول في الدولة.
لكنك تفاجأ اليوم بحملة "سينمائية" غريبة على أول خطوة في بناء الدولة، وهي الدستور، فيعتبره البعض واجبًا وطنيًا، وآخرون أخلاقيًا، فضلاً عن إعلانات أقراص الدواء وتوفير العلاج والمحاصيل الزراعية والخير القادم، لاستجداء الطبقة الفقيرة في مصر على التصويت بنعم، وزرع حلم جديد داخل عقول المصريين مرة أخرى بطرق أكثر حداثة، ولربما نأخذ عقودًا حتى ندرك فيما بعد أنه مجرد كابوس آخر.
لماذا لا تتركوهم مرة واحدة يتعلمون بأنفسهم؟ لماذا لا نترك المجال مفتوحًا على مصراعيه للاختيار حتى يدرك الناس فيما بعد أنهم اخطؤوا باختيارهم هذا فيعدلون عنه في المستقبل؟! فهذه الإدارة تلغي دور المواطن في إبداء رأيه والمشاركة الحقيقية في مستقبله، فهو في النهاية موجه ليقول نعم على شيء لا يعرفه.
أعتقد أنه يجب أن نتعلم من أخطاء الماضي في ترك البلد لمجموعة تديرها مهما كبرت أو صغرت أو تبدلت فيها بعض الوجوه، وإلا فسيعود القمع بكل صوره والانغلاق، ويعود معه أحلام واهية عن الأب البطل والرمز، والذي يجب الانسياق لكل ما يرنو إليه من سياسات حتى لا تنزلق البلاد في صراعات أصبح الناس على قدرة أكبر على معايشتها في الحوادث والشقاقات الأخيرة، مما ينذر بتسليم الأمور تمامًا، والانسحاب من الصورة السياسية، بل والمشاركة بأنفسهم في سحق المعارضة.