يوسف فاخورى: كل من تحاورت معهم تحدثوا عن السد ككائن حى وكأنهم أبناؤه.. ولم ألجأ إلى نظريات تاريخية أو تحليلات
الكاتب الروائى الأسوانى، يوسف فاخورى
قال الكاتب الروائى الأسوانى، يوسف فاخورى، مؤلف كتاب «التاريخ الإنسانى للسد العالى»، إنه «سجل من خلال كتابه، الجانب الإنسانى للعاملين المشاركين فى بناء السد»، منوهاً بأن الحدث كان فريداً فى حياة من عملوا فى الموقع، وبلغ عددهم 34 ألفاً، إضافة إلى 1700 خبير روسى، حيث شهدت المدينة، البالغ عددها 35 ألف نسمة، اجتياحاً بشرياً كبيراً مما جعلها تصبح كخلية نحل، موضحاً أن العلاقة الدافئة بين الخبراء الروس والعمال المصريين سبب فى تكوين طبقة من الفنيين استفادت منها مصر كثيراً فيما بعد.
صاحب «التاريخ الإنسانى للسد»: كتبته فى عامين.. وووثّقت شهادات عمال ومهندسين وفنيين عن المشروع
وأضاف «فاخورى»، فى حوار لـ«الوطن»، أن اهتمامه الأساسى كان بتسجيل «الأحاسيس» بين العامل والحجر والنهر؛ وعن العلاقة بين المهندس والعامل والآلة والموقع، لافتاً إلى أن كل من التقى بهم خلال إجرائه الحوارات كانوا يتحدثون عن السد وكأنه كائن حى وأنهم أبناؤه، ويشعرون بالفخر لمشاركتهم فى المشروع، كما أنه حوّل العمال الزراعيين إلى «أسطوات»، مشيراً إلى أنه لا يزال فى جسم السد بعض أشلاء العمال، حيث هناك الكثير منهم تعرضوا لإصابات منها نتيجة سوء تقدير أثناء التفجير وجراء حوادث سير، مؤكداً أنه على الرغم من تلك الحوادث إلا أن العمل فى المشروع لم يتوقف دقيقة واحدة. وإلى نص الحوار:
فى البداية ما الدافع وراء إعداد هذا الكتاب الموثق لشهادات من عملوا فى بناء السد العالى؟
- تذكرت أن تاريخ بناء السد العالى مهدر من ذاكرة التاريخ، فأنا من أبناء مدينة أسوان التى يكاد لا يخلو منزل فيها ممن عمل بالمشروع، وعبر عامين استغرقت فيهما تسجيل الشهادات، التقيت فيهما عمالاً ومهندسين وفنيين وموظفين وكل من استطعت الوصول إليه ممن عملوا فى المشروع، وكانت شهاداتهم عفوية بشكل مذهل، وكل من تحاورت معهم تحدثوا عن السد العالى ككائن إنسانى حى، وكانت جملة «أنا ابن السد العالى» جملة افتتاحية لبداية الحوار من الجميع على اختلاف تخصصاتهم، حيث يشعرون بالفخر بمشاركتهم فى المشروع.
لماذا اخترت الجانب الإنسانى للعمال والفنيين تحديداً لتوثيق ذكريات بناء السد العالى؟
- لم أشأ أن ألجأ إلى نظريات تاريخية أو تحليلات تسترجع من التاريخ دلالات، وكان اهتمامى الأساسى أن أسجل الأحاسيس البينية لمشاعر بين العامل والحجر والنهر؛ وعن العلاقة بين المهندس والعامل والآلة والموقع، وتوقفت طويلاً أمام عبارات قد تبدو عابرة، وقد تبدو عاطفية، لم أرها كذلك؛ لأن دلالاتها الإنسانية والتاريخية تتجاوز العابر والعاطفى، فما يشغلنى دائماً هو توثيق تلك الذكريات للتاريخ الإنسان، باعتباره الفاعل الأصيل والمفعول به فى الأحداث الكبرى، ودائماً ما يتوارى فى كتب التاريخ ليبرز الحكام كأبطال أو كأنذال، وفى صمت تنسحب ذاكرة الأمة إلى أفراد شاء القدر أن يتصدروا المشهد كأن البشر صانعى الحدث كتلة صماء.
كيف كان الالتفاف الشعبى حول المشروع فى ذلك الوقت؟
- هذا المشروع هو الوحيد الذى تم عليه إجماع شعبى منذ استطاع (أدريان دانينوس) المصرى اليونانى الأصل أن يقنع مجلس قيادة الثورة بالمشروع فى أكتوبر 1952، وبدأت الدراسات بتكليف الشركات الدولية المتخصصة فى السدود (هوختيف) الألمانية و(مارسيليا) الفرنسية ثم البنك الدولى، واستدعت الحكومة أكبر خبير فى السدود فى العالم الأمريكى (كيرزاكى)، وبدأت فى تنظيم ندوات فى المدارس والجامعات والأندية والمصالح الحكومية ومراكز الدراسات والنقابات لشرح أبعاده، وما سينتج عنه من فوائد أو عوارض وكيفية علاجها، وحين بدأ العمل كان كل عامل أو مهندس أو فنى يدرك حجم المشروع ويفهم دوره جيداً.
اهتممت بتسجيل المشاعر بين العامل والحجر والنهر والعلاقة بين المهندس والعامل والآلة والموقع.. وصدر قرار لطلبة الدبلومات الفنية بالعمل فى المشروع على أن يأخذوا شهاداتهم من الموقع فأصبح لدينا طبقة من الفنيين المهرة
من خلال حواراتك مع القائمين على بنائه.. كيف اتسمت تلك الفترة؟
- كان السد العالى حدثاً فريداً فى حياة من عملوا فى الموقع وبلغ عددهم 34 ألفاً بالإضافة إلى 1700 خبير روسى، وقد اجتاح كل هذا العدد من البشر المدينة الصغيرة التى بلغ عدد سكانها فى هذا التوقيت 35 ألف نسمة، ما جعل المدينة تشبه خلية نحل لا تهدأ، وهو ما غير الحياة الاجتماعية والاقتصادية للمدينة تماماً، فقد تحول العمال الزراعيون إلى «أسطوات» بعد أن قام معهد التدريب الذى تم إنشاؤه بتدريبهم على الأعمال الموكلة لهم، ومع مرور الوقت استفاد أبناء العمال من التعليم المجانى، وتقلدوا مناصب مهمة فى الدولة، وتحول العامل الزراعى لـ«ابن مدينة»، واكتسب صفاتها وتعايش مع سلوكها، ومما تم رصده أيضاً أن العمال وجدوا لأول مرة بالقرب منهم مكان العمل والعلاج فى حالة الإصابة، وأندية رياضية وسينما ومسرحاً، ولأول مرة أيضاً شاهدوا فنانين وأقيمت حفلات على أرض المدينة، وشهدت حركة التجارة رواجاً غير مسبوق، وصعد البعض من طبقات أدنى إلى أعلى وتنامت حركة المعمار بشكل هائل.
كيف تم تدبير العمالة؟
- فرض المشروع نوعاً مختلفاً من التعليم، فقد كانت الحاجة ماسة لعمالة كثيفة، ولم يكن هناك عمالة مدربة كما لم يكن جائزاً تفريغ المصانع فى باقى المحافظات من عمالها أو استيراد عمالة من الخارج، فصدر قرار لطلبة الدبلومات الفنية بالعمل فى السد العالى، على أن يأخذوا شهاداتهم من الموقع، وهذا النوع من التعليم العملى خلق طبقة من الفنيين المهرة اقتربت من مستوى المهندسين، ولأول مرة يعرف العمال تلك الآلة الجبارة (الكراكة)، ومكان التخريم (البوركيشن والبى وان)، وكانت بالنسبة لهم نوعاً من الاختراع، ولم يكن أحد منهم يعرف كيفية قيادتها سوى الخبراء الروس، وتم تدريب البعض فى الموقع وأرسل البعض إلى الاتحاد السوفييتى للتدريب.
بناء السد خلق رواجاً تجارياً غير مسبوق.. وصعد البعض من طبقات أدنى إلى أعلى.. ودخلت «السينما والمسرح» المدينة
وكيف كانت العلاقة بين الخبراء الروس والمهندسين والعمال المصريين؟
- العامل الذى لا يقرأ ولا يكتب كان يستطيع فهم الخبير الروسى بالإشارة أو بكلمة روسية التقطها أثناء العمل أو بكلمة عربية التقطها الروس، وربما كانت العلاقة الدافئة بين الخبراء الروس والعمال المصريين سبباً فى تكوين طبقة من الفنيين استفادت منها مصر كثيراً فيما بعد.