الذكرى «67» لـ«موقعة الإسماعيلية».. شهود على العصر يروون مشاهد جديدة من بطولات الشرطة
موقعة الإسماعيلية.. حكايات «معركة الرصاصة الأخيرة»
حكايات ما زالت قائمة، وروايات لم تنسها الأجيال، رغم مرور نحو 7 عقود على واحدة من أشهر المعارك فى عهد الاحتلال الإنجليزى لمصر، عندما حاصرت القوات البريطانية، فجر يوم الجمعة 25 يناير من عام 1952، قسم البستان فى منطقة كوبرى سالا بمحافظة الإسماعيلية (مديرية أمن الإسماعيلية حالياً)، مطالبة قوات الشرطة بداخله تسليم أنفسهم وأسلحتهم من أجل ترحيلهم إلى القاهرة حتى تتمكن القوات البريطانية من إحكام السيطرة على الفدائيين فى المدينة، حينها رفضت قوات البوليس المصرى المطالب الإنجليزية ولم تلق بالاً للإنذارات المتكررة عليها، ما أدى لوقوع معركة غير متكافئة دامت لنحو بضع ساعات أمام قوة إنجليزية تخطت 7 آلاف جندى، مزودين بأسلحة ثقيلة ودبابات وعربات مصفحة، وراح ضحية التصدى للإنجليز 56 شهيداً و80 مصاباً من أبطال الشرطة سجلوا بدمائهم صفحة مهمة فى سجلات تاريخ المقاومة ضد المحتل البريطانى. «الوطن» انتقلت إلى محافظة الإسماعيلية فى الذكرى الـ67 من مذبحة الشرطة واستمعت إلى ذكريات من عاصروا هذا الحادث لتنقل الصورة التى ما زالت حية بين أبناء المحافظة حتى الآن.
على بعد مئات الأمتار من قسم البستان موقع حادث الإسماعيلية، ولد جلال عبده هاشم، يوم 25 يناير 1941، وهو ما منحه الفرصة ليصبح شاهد عيان على مذبحة الشرطة التى وقعت فى نفس يوم مولده، لكن بعد 11 عاماً بالتمام والكمال، عاد بذاكرته للوراء على نظام الفلاش باك فى السينما، وبدأ يروى الذكريات قائلاً: «فى اليوم ده قلت لوالدتى نفسى أعمل عيد ميلاد، لأنى ماكنتش عملت عيد ميلاد خالص، وقالت لى هعملك وهات أصحابك وهديك فلوس كمان تروح السينما وكنت فرحان جداً»، لكن الحال تبدل فى هذا اليوم، فبدلاً من أن يوقد «جلال» شموع عيد ميلاده أوقدت القوات البريطانية ناراً من نوع آخر على بعد مئات الأمتار منه، وأضاف: «الإنجليز عكننوا علينا فى اليوم ده ونسيت حتى عيد الميلاد».
«الشريف»: المعركة كانت غير متكافئة وماخدتش حقها فى الإعلام ونعانى من تزييف التاريخ.. والقوات البريطانية صورت الأحداث بالكامل.. وكوبرى «سالا» آخر الرموز الباقية
«كانت معركة من أروع معارك البطولة فى تاريخ مصر»، هكذا وصفها «جلال»، الذى كان جالساً فى بيته بين أبويه يصم آذانهم دوى المدافع وأصوات الطلقات فى معركة شرسة تدور هناك، تمنوا جميعهم لو أنهم كانوا طرفاً فيها: «كان نفسنا نعمل أى حاجة، والأحداث كانت بتتنقل لينا بسرعة وكنا بننفعل وكلنا عايزين نروح، اللى ماسك ساطور واللى ماسك سكينة واللى ماسك شومة، بس طبعاً هتواجه مين بالحاجات دى»، مشاهد الجنود فى قسم البستان بعد انتهاء المعركة لم يرها «جلال» ولكنها انتقلت إليه كغيره، وعبر عن ذلك بقوله: «الشهيد جوه القسم كان مرمى على الأرض وسلاحه فى حضنه والطلق خلصان منه، وده اللى خلى القائد الإنجليزى يدى التحية العسكرية للجنود، عشان كده دى كانت حاجة خالدة فى عقولنا ولا يمكن تتنسى».
«جلال» كان دائماً مرافقاً لوالده، وهو ما جعله يرى الكثير من الأحداث بسبب وجوده فى منطقة تعد هى إحدى مناطق تجمع الفدائيين بالإسماعيلية، وكانوا على مقربة من والده بحكم عمله، لأنه كان تاجراً، وكان يساعدهم بين الحين والآخر فى تجميع الأموال لشراء الأسلحة التى يواجهون بها القوات الإنجليزية، لذلك كان «جلال» شاهداً على واحدة من عمليات تهريب بعض ضباط الشرطة من القوات الإنجليزية بعد حادث يناير بأيام، عندما لجأ 3 منهم إلى والده وطلبوا منه الاختباء عنده لحين الخروج من المحافظة، ولم يتردد والده فى ذلك، حسب قوله: «طلبوا منه لبس ملكى، وقتها جاب لهم لبس من عنده ووالدتى كانت عندها مكنة خياطة وظبطت اللبس عليهم، وبعد كده خدهم فى العربية وأنا كنت معاه ووداهم فى بيت تانى بتاعنا وقعدهم فى الدور الأرضى واتفق معاهم إن محمد أخويا هيجيب لهم الأكل وهيخبط بطريقة معينة، وقعدوا يوم واحد، وبعد كده مشيوا».
ما رآه «جلال» بعينيه، وما وصل إلى مسامعه من حكايات أخرى خلال أعوام عمره الأولى التى عاصر فيه الاحتلال الإنجليزى، جعله حريصاً على نقله إلى أبنائه وأحفاده، لأنها أحداث خلقت فى نفسه الانتماء الوطنى، وهو ما جعله يرغب فى بث روح الانتماء هذه فيهم، وعن ذلك قال: «ده تاريخ لا ينسى، ومش هنسى قصة جندى الشرطة اللى كان عايز ينقذ مجموعة من زمايله فوق سطح القسم ذخيرتهم خلصت، وخد بندقية واحد زميله استشهد على بندقيته ومعاهم شوية طلق وراح الناحية التانية من السطح وبدأ يضرب على الإنجليز بالبندقيتين عشان يوهمهم إن فيه قوة جاية من الناحية التانية لحد ما المجموعة التانية قدرت تنسحب من ورا المبنى، والعسكرى ده استشهد فى الآخر».
حكاية الشهادة على هذه الأحداث البطولية لم تتوقف عند «جلال»، الذى يعتبر من القلائل الذين عاصروا هذه الواقعة وهم واعون لما يدور حولهم وما زالوا على قيد الحياة، وإنما انتقلت لمن كان أصغر منه سناً حينها، وهو إسماعيل بيومى، الملقب بـ«قاهر خط بارليف»، لما كان له من دور مهم فى حرب أكتوبر، فقد ولد قبل «موقعة الشرطة» فى الإسماعيلية بأربعة أعوام فقط، ولم يكن مدركاً ما يدور حينها، ولكنه علم بالتفاصيل كاملة من حكايات والديه وجيرانه التى لم تنقطع على مر السنين، وعن ذلك قال: «الأحداث كانت فى كل بيت فى الإسماعيلية، وكان الكل مشغول باللى بيحصل»
لم يكن مصدر الحكاوى حول الواقعة بالنسبة لـ«بيومى» واحداً، رغم أن والده كان دائماً يحكى له إلا أن طبيعة منطقته التى كان يعيش فيها، والتى تبعد 10 دقائق فقط عن موقع المعركة، وكثرة ضباط وأفراد الشرطة المقيمين بها، جعل الحديث عن المعركة دائماً ومتواصلاً: «كانت كل الناس مهتمة بالأحداث، وحتى الأطفال كانوا بيتكلموا مع بعض عن الحادث وحتى حكايات الستات فى القعدات بتاعتهم قدام البيوت»، وحكى لنا «بيومى» عن عزل منطقة المعركة بالكامل من جانب القوات الإنجليزية، بعد أن وضعوا الأسلاك الشائكة واللافتات المكتوب عليها ممنوع الاقتراب، قائلاً: «اللى كان بيقرب من المدنيين والأهالى كانوا بيصفوه».
«جلال»: «والدى استضاف 3 ضباط فى بيتنا وطلبوا منه لبس ملكى وأمى ظبطت لهم الهدوم المدنية وقعدوا يوم واحد وبعد كده مشيوا»
تربى «بيومى» فى بيت يعشق المقاومة، بداية من والده الذى انقطع عن العمل فى مصنع ثلج كان يقدم خدماته للقوات الإنجليزية، هو وغيره من العمال فى مختلف المجالات، بعد معركة الشرطة، إضافة إلى والدته التى ربته منذ صغره على الأخذ بثأر خاله الذى قتلته قوات الاحتلال، وواصل استعادة ذكرياته بالقول: «كنت بشوف والدتى وهى بتشيل أسلحة الفدائيين وتخبيها فوق السطح تحت الوقيد بتاع الخبيز، وبعد الحادث الناس سابوا المعسكرات الإنجليزية اللى كانوا شغالين فيها ورفضوا يتعاونوا معاهم»، وكلها أحداث سبقت وتلت موقعة الإسماعيلية وكانت بمثابة الشرارة الأولى لثورة 1952 وخروج البريطانيين من مصر.
من لم يحضر أحداث معركة الشرطة الباسلة فى الإسماعيلية سلك مختلف السبل لمعرفة كل ما دار فى هذا اليوم وفى غيره من أيام الاحتلال التى عانت فيها مدن القناة أشد المعاناة، ومن هؤلاء حسين الشريف، صاحب الـ66 عاماً، الذى اشتهر بين أبناء محافظته بتأريخ الأحداث التى مرت بها المحافظة، بعد أن اعتمد فى ذلك على البحث عن من يكبره سناً ليجلس بينهم ويستمع إليهم مسجلاً كل ما دار فى السنوات التى سبقت ولادته، ليرويها لنا قائلاً إن مقدمات الحادث بدأت مع إلغاء معاهدة 1936، تلتها 100 يوم مليئة بالأحداث والأعمال الفدائية ضد القوات الإنجليزية فى مدن القناة، وكانت الإسماعيلية من أكثر هذه المدن اشتعالاً: «المظاهرات يوم 16 أكتوبر 1951 وصلت لميدان عرابى، وتم حرق جزء كبير من المجمع الاستهلاكى اللى كان بيخدم القوات الإنجليزية»، وواصل «الشريف» حديثه قائلاً: «بدأت المواجهات بين القوات الإنجليزية وبين الأهالى ما أدى فى نهايته إلى معركة الشرطة».
«بيومى»: والدى انقطع عن العمل فى مصنع ثلج كان يقدم خدماته للقوات الإنجليزية.. و«كنت بشوف والدتى بتخبى الأسلحة للفدائيين»
«معركة غير متكافئة»، هكذا قال «الشريف» متحدثاً عن الحصار الكامل من القوات الإنجليزية لمبنى قسم شرطة البستان، الذى لم يكن موجوداً به من الجنود سوى 20 جندياً أو يزيد قليلاً، وجميعهم من خارج محافظة الإسماعيلية، مشيراً إلى أن هذا القسم لم يعد له وجود الآن بعد أن تحول إلى مديرية أمن المحافظة، ولم يتبق من هذه الفترة سوى معلم واحد متمثلاً فى كوبرى «سالا» الذى كان شاهداً على الأحداث. عدم توثيق هذا الحادث فنياً بصورة دقيقة كان أكثر ما يزعج «الشريف» خلال الأعوام الماضية، فمن خلال متابعته رصد بعض المغالطات التى تعلقت بموقعة الشرطة، كان من بينها، حسب قوله، فيلم ناصر 56، الذى جسد العدوان الثلاثى على مصر ببعض من مشاهد موقعة الشرطة، ومؤخراً استعان فيلم «حرب كرموز» بمشاهد من موقعة الشرطة على اعتبارها مشاهد من معركة كرموز، وعبر عن ذلك بقوله: «ده تزوير فى التاريخ، والواقعة ماخدتش حقها فى الإعلام المصرى، وده ناتج عن إن الأحداث دى أغلبها ماتوثقش من الجانب المصرى على العكس مثلاً القوات البريطانية صورت معركة الشرطة وأحداثها بالكامل، وظهرت فى أفلام بريطانية كتيرة».