الحاجة آمنة.. فدائية تولت إخفاء السلاح وأبطال المقاومة وشعارها فى الحياة «الأرض عرض»
الحاجة آمنة
بينما كانت المعركة دائرة بين البوليس المصرى وقوات الاحتلال الإنجليزى التى حاصرت مبنى محافظة الإسماعيلية فى 25 من يناير 1952، بعد رفض الشرطة تسليم الأسلحة وإخلاء المبنى، وجدت شابة مصرية تبلغ من العمر 27 عاماً، وتُدعى آمنة دهشان، فى محيط مبنى محافظة الإسماعيلية، وكانت قد انضمت إلى الفدائيين قبل هذا التاريخ بفترة، وكان يتركز نشاطهم فى اختطاف الجنود الإنجليز الموجودين فى مدن القناة، ورغم مرور عقود طويلة على تلك الملحمة الوطنية، إلا أنها ما زالت تحتفظ بذكريات كثيرة عن ذلك اليوم وما شهده من أحداث.
«بعد أى عملية فدائية للشباب والرجال البواسل فى الإسماعيلية، كان لى دور مهم أنا والحاجة أم رضوان، رحمها الله، التى كانت فى مثل عمرى تقريباً، ودورنا كان يتلخص فى إخفاء أسلحة الجنود الإنجليز فى ملابسنا، إضافة إلى أن الفدائيين بعد كل عملية كانوا يختبئون عندنا فى المزارع التى يمتلكها والدى الحاج محمد منصور دهشان، وكانوا يرتدون الجلباب ونسلم كلاً منهم فأساً لتفادى تفتيش الإنجليز»، حسب حديث الحاجة آمنة لـ«الوطن».
الحاجة آمنة، التى تبلغ 93 عاماً حالياً، تتذكر ذلك اليوم جيداً، فعندما شاع خبر حصار مبنى المحافظة من قبَل الاحتلال الإنجليزى انضم الأهالى للشرطة، وبعد سماع صوت دانة تخرج من فوهة دبابة ترى بعدها جداراً بمبنى المحافظة ينهار متحولاً إلى أنقاض.
وتقول الفدائية بنت محافظة الإسماعيلية: «اشتدت العمليات الفدائية ضد معسكرات الإنجليز وجنودهم وضباطهم فى منطقة القناة، وكانت الخسائر البريطانية نتيجة تلك العمليات فادحة، كما أدى انسحاب العمال المصريين من العمل فى معسكرات الإنجليز إلى وضع القوات البريطانية فى منطقة القناة فى حرج شديد، وكان السلاح يصل إلينا من المحافظات عن طريق الجِمال لأن الإنجليز شددوا التفتيش على القطارات والطريق الزراعى، وكنت أخبئ الأسلحة فى عربة الخضار وداخل ملابسى، وأنقله من قرية نفيشة إلى المحطة الجديدة وعرايشة الشهداء أو كما كان اسمها عرايشة العبيد».
الفدائيون تخفوا فى الجلابيب داخل مزارع والدى.. والسلاح كان يأتينا من المحافظات على الجِمال ونخبئه على عربات الخضار.. ولا أحب «الإخوان» منذ عصر «ناصر»
الحاجة آمنة، تعد أول سيدة بمحافظة الإسماعيلية تحمل رخصة سلاح، حيث استخرجتها فى سبعينات القرن الماضى، خلال حكم الرئيس الراحل محمد أنور السادات بغرض الدفاع عن النفس وممتلكاتها من الأراضى والمواشى.
تزوجت «آمنة» من ابن عمها خلال فترة حكم الملك فاروق، وتحديداً عام 1947، وكان مهرها آنذاك 60 جنيهاً، والشبكة كانت عبارة عن «برقع»، وأنجبت 7 أولاد وبنتاً جميعهم لم تبخل هى وزوجها عنهم بأى شىء وكان تعليمهم على رأس الأولويات، ورغم حالها الميسور لكن التعليم بالنسبة لعائلة الدهشان كان يعتبر التاج الذى تكتمل به الثروة، ولديها 60 حفيداً وحفيدة حتى الآن أصغرهم لم تكمل العام بعد، حيث تقول: «أنا سعيدة جداً لرؤية أحفادى وأبنائهم، لم أتخيل أن هذا سيحدث يوماً ما، لكن الحمد لله على كل حال».
عاصرت السيدة التسعينية حروباً كثيرة بداية من الحرب العالمية الثانية وحرب فلسطين عام 1948، والعدوان الثلاثى ثم نكسة 1967 وحرب الاستنزاف وحرب 6 أكتوبر 1973. وعن ذلك تقول: «فى الثلاثينات كانت الطائرات الألمانية تحلق فوق منزلنا وتقصف المعسكرات البريطانية فى القناة، أتذكر حينها أول غارة كنت فى عمر السابعة من عمرى، ورأيت الجنود البريطانيين يختبئون وسط المزارع، ولن أنسى تلك اللحظة التى سقطت فيها طائرة ألمانية فوق منزل جيراننا الذين اضطروا إلى الهجرة لمحافظة الشرقية».
وتضيف: «أصعب موقف مررت به فى حياتى كان الشعور بمرارة نكسة 67، وكنت أستمع إلى الإذاعة آنذاك، لكن عندما رأيت الجنود المصريين عائدين من الجبهة تحسرت أكثر وعرفت الحقيقة، وأكثر شعور كان يراودنى هو الخوف على أرض أجدادى، فالأرض عرض، كما نقول فى الأرياف، ورغم دموية الصهاينة لم أخف من دانات المدافع أو الغارات ورفضت التهجير مع أهالى الإسماعيلية وتمسكت بمنزلى، وحصلت على تصريح من القوات المسلحة المصرية لمراعاة أرضى».
لن أتأخر عن خدمة وطنى حتى آخر يوم فى عمرى.. تقديرى كبير للرئيس «السيسى» وأتذكر خطاب «3 يوليو» جيداً
انتهت الحرب لتدخل مصر عصر السلام، لتستكمل الحاجة «آمنة» مسيرتها من المقاومة إلى العمل التطوعى والسياسى، حيث تولت منصب عضو مجلس محلى بمحافظة الإسماعيلية كأول ريفية من أبناء المحافظة تشغل هذا المنصب.
محافظة الإسماعيلية بالنسبة لآمنة الدهشان ليست مجرد محل ميلاد أو إقامة بالبطاقة، بل الأرض التى نبتت فيها بذرة سيدة مناضلة، فالإسماعيلية هى تلك المحافظة التى شهدت تأسيسها ولا يوجد محافظ تولى هذا المنصب فى الإسماعيلية لا يعرف السيدة الأبرز فى المحافظة، لا سيما اللواء عبدالله غبارة فى خمسينات القرن الماضى، واللواء عبدالعزيز سلامة فى نهاية التسعينات.
مسيرة طويلة من النضال كانت آمنة دهشان البطلة الأولى فيها، فالزواج لم يمنعها من مساعدة الجنود فى النكسة، أو حرب 1973، فكانت تقدم لهم الطعام وفتحت منزلها للجنود فى 5 يونيو 1967.
وتختتم الحاجة آمنة حديثها قائلة: «لن أتأخر عن خدمة هذا الوطن حتى آخر يوم فى عمرى وأعشق الزعيم جمال عبدالناصر رغم مصادرة جزء كبير من أرض والدى فى الإصلاح الزراعى، وأحب الرئيس عبدالفتاح السيسى وأتذكر جيداً خطابه للشعب يوم 3 يوليو عام 2013، فأنا أتابع القنوات الفضائية والصحف بشكل يومى، ولا أثق فى المعلومات مجهولة المصدر، خصوصاً التى يصدرها الإخوان فأنا لا أحبهم منذ عصر عبدالناصر وكرهتهم أكثر حينما اغتالوا المرحوم السادات، وكانت سنة حكمهم سيئة جداً».