م الآخر| الحاج محمد مدبولي.. الأمي الذي نشر الثقافة للعالم
من الشخصيات المؤثرة والغريبة التي مرت عليَّ في حياتي رجل تمتد جذوره لصعيد مصر.. ابن محافظة سوهاج انتقل للقاهرة للعمل بها في بيع الجرائد والصحف منذ 6 سنوات في منطقة الدقي ثم أصبح يبيع الكتب في كشك بوسط القاهرة وتحول الكشك إلى مكتبة في 1970 بميدان طلعت حرب، وأصبح وكيلا لتوزيع الصحف والمجلات الأجنبية.
كان يدهشني تكوينه فكل شيء به لافت للنظر ملابسه التي كانت دائما هي الجلابية وتحتها السديري وملامحه كلها رجل شرقي ابن البلد، الأصالة الطيبة، البساطة، الذكاء والعمق كل هذه الصفات في العصامي الحاج "محمد مدبولي".
لم يكن متعلما، فهو لم ينل من التعليم شيئا على الإطلاق ولكنه غرس الثقافة بقصة نجاحه في العقول المصرية والعربية، فهو البائع الأمي للجرائد والذي اسطاع أن يصبح واحدا من أشهر وأهم ناشرين العرب.
عن جلساتي معه التي كانت تشبعني رغبة في المعرفة بكل تفاصيل الأحداث التاريخية التي مر بها والوقائع التي شهدها وعلاقاته الإنسانية والصداقة مع كثير من الأدباء والمثقفين منهم نزار قباني وأنيس منصور ونجيب محفوظ ومحمد حسنين هيكل.
ومن المواقف الطريفة حكي أن رفعوا الكشك في مرة من المرات بسبب فؤاد نجم لأنه كان بينشر كل كتبه السياسية، عن شخصيته العفوية عندما يتحدث وعن وطنيته في أنه كان يرفض التعامل مع اليهود في معارض الكتاب.
كنت أرى دائما معاملته مع الزبائن ليست معاملة البائع والمشتري ولكن علاقة إنسانية وثقافية بعيدة كل البعد عن فكرة التجارة بأنه يبيع ليكسب فقط، فكان المشتري يخرج ومعه ابتسامته الراضية وحبه لهذا الشخص صاحب المكتبة.
أما منهجه السياسي، فهو ناصري من الدرجة الأولى وكان لا يفصح بعدم محبته لأنور السادات كنت أتمنى لو أنه كان على قيد الحياه ليعلم أن "مبارك" رحل كنت أظنه سيفرح كثيرا وكان دائما يقول إنه لن يستمر طويلا.
كنت أسميه دائما العم مدبولي وكانت له مسميات وألقاب ذكرها الكثيرون، منها مدبولي هرم مصر "أحمد منصور"، وزير الكتاب العربي "رشاد كامل".. وقال عنه الكاتب الكبير "يوسف إدريس" في إحدى مقالاته "شيلوا تمثال ميدان طلعت حرب وضعوا مكانه تمثالا للحاج "محمد مدبولي".
وقيل عن مكتبة مدبولي إنها بورصة الكتاب وبوصلة القارئ أو الباحث حقا لم يبحث أي مشترٍ عن كتاب إلا ووجده في مدبولي، فظلت المكتبة قادرة على توفير الكتب العربية والأجنبية، ولكنه كان عنده شروط ألا يوجد كتب مسيئة للدين ولا تتحدث عن الجنس.
نزولي إلى وسط القاهرة يعني زيارة المكتبة وكنت أحب أن لأدخل إلى مخابئها.. كنت أنظر إلى بعض الكتب وأقول في نفسي لم يكن جيلي يشعر بقيمة هذه الكتب فأصبح "فيس بوك" والتكنولوجيا هي التي تشغل العقل حاليا العيب في الزمن أم في جيل يرفض الثقافة.
هذه المكتبة بكل ركن فيها تشهد مواقف وحكايات مر بها العم مدبولي، وهؤلاء الذين يجيئون إليها حتى الآن يتذكرون أشياء تجمعهم مع هذا المكان ويجيئ إليها أناس من كل أنحاء العالم يأخذون ما يريدون ويرحلوا ولكن تبقى روح الحاج مدبولي قائمة في كل ركن بها.
دائما بها شيء مختلف وكأنها متأثرة هي الأخرى به، فيها إصراره الذي وصل به لتصبح من أشهر دور النشر في العالم ولقد ذكره الروائي الكبير بهاء طاهر.. قائلا "على الرغم من ثقافته المحدودة، فإن وعيه كان يحسده عليه الحاصلون على الدكتوراة".
رحيله يعني الكثير بالنسبة إلي.. فهو غياب الاطمنان والأمل والطموح الذي كان ينقله لغيره عند رؤيته في كل مرة ويعني غياب عمود من أعمدة النشر الثقافي في مصر والعالم العربي.
رحل عن عمر يناهز 70 عاما بعد صراع مع مرض السرطان، بعد أن قدم كنزا من الكتب للمكتبة العربية.
لم أكن أذكر رحلة حياته ولكن كانت تستوقفني شخصية مثله.. رجل أمي ينشر ثقافة للعالم بكتبه.. لا يشترط وجود الشخص لنكرمه بما أنجزه أو فعله.. "رحمك الله يا عم مدبولي".