«بوعزيزى مصر».. حكاية «الأزمة مستمرة»
قبل يناير 2011، كان الوصول لـ«حد الكفاف» أقصى أمانيه، فبضعة أرغفة من الخبز وجنيهات «تعد على الأصابع» كانت كفيلة بأن تجعله مواطناً يسير فى فلك الحكومة، «يسبح بحمدها، ويغض بصره عن مشروع توريثها»، لكن طالما قرر الحاكم بأمره أن يدهس «لقمة عيشه»، فلتكن النيران فى جسده «برداً وسلاماً» عن الحياة فى بلاد تراه مجرد رقم فى «طابور انتخابات»، أو «مشرحة قتلى».
إنه عبده عبدالمنعم حمادة، ذلك الرجل الخمسينى صاحب لقب «بوعزيزى مصر»، بعدما أشعل النيران فى جسده 17 يناير 2011، أمام مجلس الشعب قبل أسبوع من ثورة الشعب، بات طموحه الآن سداد الإيجار الشهرى لذلك المقهى المتواضع على طريق فرعى بين الإسماعيلية وبورسعيد، لا يسلكه إلا «التائهون أو المُسافرون على عُجالة». انتصار يناير على العواجيز لم يدفعه للتفاؤل بأن ينتقل من تلك الغرفة الضيقة التى يعيش فيها مع زوجته وأولاده الأربعة ووالدته وأخيه الأصغر، أو للتفاخر بنفسه كواحد ممن ساهموا فى نزول الملايين ضد النظام، بل فضل أن يقضى بإرادته 6 شهور فى مستشفى «الخانكة» للأمراض النفسية والعصبية، رغم التقارير الطبية بأنه «بات لائقاً ولا يحتاج لعلاج».[SecondImage]
فى غرفة مظلمة مُلحقة بمطبخ كافتيريا «النور»، يأتى صوت وزير بارز فى حكومة الببلاوى يتحدث لإحدى الفضائيات، فيما يظهر فى الخلفية «الحكومة جاهزة للتعامل مع تظاهرات الذكرى الثالثة للثورة.. ومفيش خوف»، يجلس «عبده» منهمكاً فى تقطيع «الفاصوليا»، المكون الرئيسى لشوربة الخضار التى يقدمها لرواده.
يستقبل طلبنا بالحديث عن 3 سنوات مضت تبدو ذكرياتها بالنسبة له أمرّ من محاولته الانتحار، بموافقة ممزوجة بـ«ابتسامة يائسة». وتظهر زوجته وكأنها أكثر سعادة، فربما تفلح محاولاتها هذه المرة فى توجيه النداء للرئيس وللحكومة أو لأى مسئول يستمع من أجل معاش شهرى يكسر حاجز الـ400 جنيه التى تتحصل عليها أسرة الـ«8 أفراد» من مكتب التأمينات.
كانت العاشرة صباحاً، يوم الاثنين 17 يناير، الحالة الأمنية والمرورية تبدو مستقرة فى شارع مجلس الشعب، فبرلمان الحزب الوطنى ما زال يواصل جلسات تقسيم «غنيمة اللجان النوعية»، وحكومة نظيف تبحث فى اجتماعاتها مواجهة ما يسمى دعوات التظاهر لتعكير ذكرى عيد الشرطة. جاء الرجل صاحب الـ48 عاماً وقتها حاملاً جركن بنزين 92، من شوارع السيدة زينب ليشعل النار فى جسده، بينما عقله لا يفكر إلا فى أنه «لا قيمة للحياة بعد الآن.. لا عيش عارف أجيب.. ولا 1000 جنيه إيجار قهوة عارف أسدد»، قبل أن تسهم شجاعة رجل تاكسى انقض عليه بـ«مطفأة حريق» فى إعادته للحياة.[ThirdImage]
يتحدث عبده «الانتحار كان المحطة الأخيرة فى الرحلة، فالبداية كانت مع الأيام الأولى لعام 2011، عندما فوجئت بالإدارة المحلية لمركز القنطرة غرب تبلغنى بأنه وفقاً للتصنيف الجغرافى الجديد أصبحت تابعاً لمخبز بمنطقة البياضية»، وفقاً لعبده فالذهاب لمخبز البياضية يحتاج لـ«مواصلة خاصة» وبالتالى «أموالاً أكثر»، ومع ذلك فالأزمة ليست فى تكاليف المشوار اليومى، بل فى عدد الأرغفة المخصصة للأسرة التى تتكون من 8 أفراد، وحددتها الوحدة المحلية، بـ«20 رغيفاً فقط».
كعب داير ما بين المجلس والوحدة، أنهتها عبارة من مدير مجلس المدينة: «المرة دى بس هتاخد العيش الزيادة.. من عندنا.. حاجة كدا لله»، ليدخل فى مشاجرة وشد جذب انتهى برفضه الحصول على «الهبة»، وقرار بالتوجه إلى القاهرة رأساً حيث الخلاص.
«ربما لو تكررت الواقعة مجدداً أو عاد الزمن سأجد نفسى بين خيارين؛ إما أن أصر على موقفى السابق أو أن أحيل الأزمة كلها إلى مديرية التموين»، فمحمد فهمى البك، رئيس مركز ومدينة القنطرة غرب بالإسماعيلية السابق، كان يرى أن «عبده» يريد الحصول على أكبر عدد ممكن من أرغفة الخبز المدعمة لاستغلالها فى الكافتيريا التى يمتلكها، وأكد أنه لو سقطت هيبة الدولة فى إرساء المبادئ والقوانين، سيسقط كل شىء، وأوضح «البك»، الذى نُقل قبل شهور إلى العريش ليشغل منصب رئيس مجلس المدينة، أنه لا يشعر بأى «ذنب أو ألم» بعد 3 سنوات، كونه سبباً رئيسياً فى إقدام عبده على الانتحار. قائلاً: «ما فعله ذلك المواطن لم يكن بسببى أو بسبب العيش، الأمر كان نتيجة لتراكم مشاكل شخصية مر بها»، لافتاً إلى أنه تقابل معه فى أعقاب ثورة يناير، وأنهى له إجراءات الحصول على بوتاجاز.[FirstQuote]
رئيس مجلس المدينة السابق، عبر عن وجهة نظره السياسية فى أزمة «عبده»، بأن التعاطف الشعبى معها جاء نتيجة لأن ذلك الشخص هو «نسخة مكررة» من المصريين فى همومهم وأزماتهم.
صوت الوزير البارز فى حكومة الببلاوى، الصادر من التليفزيون ما زال فى الخلفية «خارطة الطريق ستنفذ.. ولازم الشعب يساند الحكومة»، و«عبده» أيضاً ما زال ماضياً فى تقطيع الخضراوات، وما زالت النار فى جسده، كما يقول. قائمة أسعار الطعام البخسة المُعلقة على واجهة المقهى لا تجذب من المُسافرين إلا القليل، زوجته تتحدث بحسرة «كان زمان الزبائن داخلة خارجة، دلوقت أهو من طلعة النهار مفيش زبون دخل». يتناول «عبده» طرف الحديث: «أنا فاتح الكافتيريا دى من 14 سنة، بردو ليا زباينى وناسى، اسأل أى حد فى الطريق على قهوة النور وعبده حمادة هيعرفنى، لكن الرزق ضاق فى الفترة الأخيرة، لزيادة عدد المقاهى على طريق القنطرة، أو لأن البلد بقت زى ما أنت شايف».
يعود بذاكرته مجدداً لـ«الاثنين الموعود»: «لم يدخل فى نوبة إغماء بعد إنقاذه، وظل مُحافظاً على وعيه، انقلب مستشفى المنيرة مع حلول أذان الظهر رأساً على عقب، وفى هذه الأثناء وصل وفد وكلاء نيابة جنوب القاهرة برئاسة المستشار ممدوح وحيد ليستمع لأقواله حول واقعة الانتحار، يرفض الإدلاء عن مكان محطة الوقود التى جلب منها الكمية التى أشعل بها النيران فى جسده، قبل أن يسرد أسباب الأزمة كاملة، قضى بعدها 3 أيام داخل المستشفى للعلاج من آثار الحروق التى بلغت نسبتها 5%، وخضع للكشف من قبل رئيس قسم الطب النفسى بالمنيرة، فأصدر تقريراً أن (عبده) يعانى من قلق نفسى حاد، ليجرى بعدها إيداعه 3 أشهر فى مستشفى الخانكة للأمراض النفسية والعصبية».
الأوراق الرسمية المتناثرة حول معاناة «عبده» من مرض نفسى حاد دخل على أثره مستشفيات متعددة للعلاج، من عام 1981 حتى عام 1989، كان رده عليها «هما بيقولوا إن عندى مرض نفسى، لكن لو أنا فعلاً تعبان طلعونى ليه بعد الثورة، لو أنا خطر سايبينى ليه».
حتى هذه اللحظة، وبعد مرور 3 سنوات على الواقعة لا يستطيع عبده أن يجيب بدقة، لماذا فكر فى الانتحار؟ فقط هى «الخنقة بقى خلتنى أفكر فى ده، اللى حصل إنك مش عارف تجيب عيش لأهل بيتك». حاول عبده قبلها أن يحل مشكلته، وصل للقاهرة مساء 16 يناير 2011، ليقابل أحد أصدقائه الصحفيين، أملاً فى أن يساعده على إنهائها، انتظره طويلاً فى نقابة الصحفيين، ولم يأت، لذلك فى طريقه للمبيت بفندق فى الحسين، قرر الانتحار.
متابعة ومعايشة الثورة داخل مستشفى للأمراض النفسية والعصبية بالتأكيد تختلف، فأنت لا تتحرك من أمام التليفزيون، الميزة الوحيدة أن المستشفى كان به «طبق وريسفر» لمتابعة القنوات الفضائية بدلاً من الاستسلام لـ«كورنيش التليفزيون المصرى أو الكاميرا المثبتة فى ميدان مصطفى محمود». يتذكر ضاحكاً «محدش كان مركز فى حاجة جوة المستشفى، الدكاترة والممرضين اللى فيهم متلغبط واللى بيشتم ويلعن فى اللى بيتظاهروا، والمرضى كل واحد بيدور على مصلحته، سواء سيجارة، أو الزيارة اللى جياله، واللى مستنى جرعة العلاج»، فالعلاج، حسب «عبده» كان مكثفاً سواء لراحة المريض، أو للتخلص من «وجع الدماغ».
عندما كان طفلاً وقبل أن يكمل عامه العاشر، قضى طفولته وسط ركام النكسة على خط القناة، يستمع لرثاء المجندين زملاءهم، ويغنى على السمسمية وعيناه لا تفارقان العلم الإسرائيلى المرفوع على البر الشرقى لقناة السويس. تلك الخلفية جعلت لديه شعوراً بالخوف على ثورة يناير أكثر من فرحته بالانتصار على نظام «مبارك».
يتحدث: «عمرى ما تخيلت إن حاجة فى بلدنا تقدر تهز حسنى مبارك، حبيب العادلى كان مفهمهم إن الأمور تحت السيطرة»، لا يستطيع أن يسقط من ذاكرته مشاركته فى انتفاضة الخبز عام 1977: «لما نزلنا وقلنا عايزين ناكل، السادات قال علينا حرامية». يضيف: «جيرانى وأصحابى دائماً ما يسألوننى، هو لسه فيه أمل إن البلد ينصلح حالها؟، وأرد: مفيش حاجة هتتصلح إلا بالعمل».
بعدما خرج من «الخانكة» فى أبريل 2011، وجد البلاد ما زالت تعيش فى ركاب الماضى، فقرر بإرادته أن يكمل فترة علاج اختيارية جديدة داخل المستشفى، وصلت مدتها إلى 6 شهور. يُعلق: «رغبتى كانت أبعد، مفيش جديد، واللى جاى مش هيبقى أحسن من اللى فات، مفيش حاجة هتحصل قريب، والجديد زى القديم».[SecondQuote]
قبل أيام قليلة، ألقى عامل محارة باليومية بنفسه أمام عجلات قطار مترو الأنفاق، متخلصاً من حياته فى ثوان معدودة، وقالت تحريات سريعة للنيابة، إنه أقدم على فعلته لمروره بأزمة نفسية، لعدم وجود عمل. «عبده حمادة» أيضاً أكد ضاحكاً أنه سيسكب البنزين سريعاً المرة المقبلة، إذا تكرر الموقف مجدداً: «لو وجدت نفسى عاجزاً مجدداً أمام أهل بيتى، لن أتردد فى الانتحار».
عن الشهادة الصحية حول اضطرابات «عبده» النفسية، قال الدكتور عبدالرحمن شاهين، الذى كان المتحدث الرسمى لوزارة الصحة قبل 3 سنوات، إن الوزارة لم تكن مسئولة عن الشهادات الصحية التى نُشرت فى جميع الصحف القومية والخاصة، صبيحة اليوم التالى للحادث، عن أن ذلك المواطن الذى أراد إفساد استقرار البلاد «مختل عقلياً».
يحكى «شاهين»: «الوزارة فور علمها بوقوع الحادث أرسلت على الفور سيارة إسعاف لنقل المُصاب فى أقل من 10 دقائق إلى أقرب مستشفى -المنيرة- وقمنا على الفور بحجزه فى غرفة منفصلة، وأصدرنا تعليماتنا بالرعاية الكاملة والعاجلة للحالة، والدكتور حاتم الجبلى -آخر وزير صحة فى حكومة نظيف- كان موجوداً فى المستشفى ليتابع الإجراءات بنفسه، أما قرار تحويل المريض إلى مستشفى الخانكة كان قراراً أصيلاً لمستشفى المنيرة».
أضاف «شاهين»: «مشروع التوريث أضاع كل إنجازات حكومة نظيف»، فهو يرى أن القطاع الصحى فى 6 سنوات كان فيها «الجبلى» وزيراً للصحة اتسمت بالأداء المتميز، كما يرى أن حالة «عبده» اكتسبت تعاطفاً تلقائياً من الشعب الذى ينجذب نحو «الإنسانيات»، والدليل أن الخطاب الثانى للرئيس السابق حسنى مبارك خلال الثورة الذى أكد فيه أنه «سيعيش ويموت بمصر» جعل غالبية الشعب يتعاطف معه، لكن فى النهاية كانت رغبة التغيير أقوى.[ThirdQuote]
مجدداً يواصل «عبده» التنقيب فى صندوق ذكريات 17 يناير، لفيف من الشخصيات العامة وكبار المسئولين والوزراء يتوافدون، يتصدرهم حاتم الجبلى، وزير الصحة الأسبق، دخل الغرفة بصحبة مرافقيه ليتأكد من الحالة الصحية، يغادر فيما يقول «عبده»: «متأسفين يا حاتم بيه على تعبك ومشوارك لحد هنا»، زيارة أخرى من رئيس لجنة الشكاوى بمجلس الشعب بناء على توجيهات الدكتور أحمد فتحى سرور رئيس المجلس، استمع فيها لأسباب الإقدام على الانتحار، فيما كانت عبارات السخرية العنصر الرئيسى فى تساؤلاته، يؤكد «عبده»: «قعد يسخر منى.. ويقولى عشان 3 أرغفة عيش تموت نفسك، شكلك كنت عايز تدفى نفسك فى البرد».
الزوجة التى جاءت ملهوفة من الإسماعيلية إلى العاصمة الصاخبة، لا تهتم بمظهرها ولا بنداءات رجال الشرطة بأن «المستشفى به ناس مهمين.. اهدى شوية»، لكن لم يهدئ من روعها سوى تلك النظرة التى تأكدت منها أن الروح ما زالت تدب فى جسده، فضلت زوجة «عبده» أن نناديها بـ«أم متولى» الابن الأكبر. تحكى: «عرفت الخبر من الجيران، قالولى جوزك ولّع فى نفسه فى مصر، وفجأة تحول محيط المقهى إلى سوق عكاظ إعلامى، كاميرات تليفزيونية وصحفيين، والجميع يسألها: تفتكرى جوزك عمل كدا ليه؟».
اليوم الأخير لعبده حمادة فى المستشفى، كان 20 يناير 2011، جاءه 3 أشخاص تبدو عليهم الهيبة، قالوا له إنهم مندوبون من وزارة التضامن الاجتماعى، وأيديهم تحمل أكياساً بها «ملابس وفاكهة ومياه غازية»، و«دس» أحدهم يديه فى جيبه ليخرج 500 جنيه قائلاً «الوزير على المصيلحى باعتلك الفلوس دى»، فجاء رد «عبده» تلقائياً: «مش عاوز حاجة منه، وزعهم على التمرجية والممرضين».
يرى «عبده» أن الإخوان سقطوا مؤخراً لأنهم لم يهتموا بنهضة الدولة قدر ما «سال لعابهم» ناحية الأخونة. ويصمت برهة قبل أن يجيب عن السؤال «مين أحسن.. حكم مبارك ولا مرسى»: قائلاً: «مش أنا حرقت نفسى فى عهد مبارك، لكن اللى أنا شايفه دلوقت يخلينى أقول عصره أحسن».
انتهى الوزير البارز فى حكومة الببلاوى من حديثه، وأيضاً انتهى «عبده حمادة» من تقطيع الفاصوليا، متجهاً إلى استراحة نومه يقضى فيها ما تبقى من ساعات النهار، فى الطريق إلى الطابق الأعلى حيث الاستراحة، يقابلك كتاب «جنة العبيط» للأديب زكى نجيب محمود، و«وصف مصر»، لجمال حمدان، فيرد علينا على استغرابنا: «صحيح أنا مابعرفش أقرا ولا أكتب، بس دايماً بنزل معرض الكتاب ومكتبة مدبولى أجيب الكتب، وأستعين بأصدقائى ليقرأوا لى».