حوار| الروائي قيس عمر: أوثق فترة «داعش» أدبيا وشاركت في «إعمار الموصل»
الدكتور قيس عمر
تحت نيران القصف الداعشية، وبين البنايات المتهدمة بفعل صواريخ وقنابل التنظيم الإرهابي، عاش الأديب العراقي الدكتور قيس عمر محمد عدة سنوات، يتفاعل مع التجربة ويستلهمها، وتزداد قسوتها عليه بفقدانه أحد أصدقائه، خلال الاحتلال، ورؤيته لمكتبة جامعة الموصل التاريخية تنهار أمامه، ليصبح همه الأكبر بينما يتسلم إحدى جوائزه «إعادة إعمار تلك التجربة».
الروائي والأديب والقاص والكاتب العراقي الدكتور قيس عمر محمد، والذي يحضر حاليًا مهرجان «مسرح بلا إبداع»، الذي تقام فعالياته في الإسكندرية، فتح قلبه لـ«الوطن» في حوار تحدث فيه عن تجربته تحت الاحتلال الداعشي، وتأثره بحداثها، ودوره في إعادة إعمار مكتبة جامعة الموصل، ودور مصر في مواجهة الإرهاب الفكري.
في البداية، من هو الدكتور قيس عمر؟ وأهم أعمالك وجوائزك وتكريماتك؟
- لا يمكن توصيف الذات إلا من بعيد، ولعل هذا ما نحاول فهمه وإدراكه، فالاسم الشخصي يطوي طبقات متنوعة متداخلة ومتقاطعة، ولكن يمكن لي أن أختصر هذا بكوني إنسانا ولد في العراق - الموصل عام 1978، حاصل على دكتوراه فلسفة أدب حديث جامعة الموصل.
صدر لي مجموعة قصصية بعنوان «جذامير»، وعدد من الكتب النقدية المطبوعة مثل «البنية الحوارية في النص المسرحي» و«خدوش على جسد المعنى»، وأهم الجوائز التي حصلت عليها، جائزة الشارقة للإبداع في مجال القصة في دورتها الـ21، والجائزة القطرية الثانية في القصة عام 2002، وجائزة القصة القطرية التي أقامتها جريدة نينوى، وعدد من الجوائز المتنوعة في مجال القصة القصيرة.
قيس عمر: خلال الاحتلال رأينا الخوف يتنقل في شوارع الموصل
- عشت عدة سنوات تحت الاحتلال الداعشي.. ما أصعب اللحظات التي مرت عليك خلال تلك الفترة؟
تلك الفترة برمتها كانت «محنة هائلة» كان عليك أن تعيش لتبصر الجوع والخوف يتنقل في أحياء الموصل ثم تبعهما الموت، حيث كانت أيامًا مثقلة بالرعب والترقب، جرى فيها مصادرة العقل وتغييبه، ولعل أخطر اللحظات التي مررت بها كانت حين اقتربت قوات الجيش من الحي الذي أسكن فيه واشتدت المعارك ووصلت لقناعة بأن الموت قاب قوسين مني في تلك الساعات، حيث استطال الوقت جدًا ولم يعد أمامي غير صورة عائلتي تُرسم في عيني صورة تتساءل كيف يمكن لي حمايتهم؟
مع اشتداد القصف كنت قبلها بأيام أنزلت الكتب كلها من الرفوف ووضعتها على النوافذ؛ لتكون ساترًا بسيطًا يمنع القنابل التي تسقط هنا وهناك طوال الوقت، وفي تلك الساعات الأخيرة التي جرى فيها تبادل القصف العنيف، كان الوقت ظهرا في يوم 1-1-2017، ومع مرور الساعات بصعوبة بالغة كنت أموت من الداخل بينما أشجع نفسي كي لا ينتقل الرعب بشكل تلقائي لعائلتي.
- عرِفتُ أنك فقدت صديقًا في أثناء الاحتلال الداعشي، فلتحدثنا عن هذه التجربة وذلك الصديق
من الصعوبة أن تجد صديقا في هذا العالم «البارد»، وكنت كغيري أمتلك صديقا مقربًا، هو الدكتور عامر جميل أستاذ فلسفة التصوف في جامعة الموصل، وقبيل تحرير المدينة، كنت على موعد معه ليزورني في بيتي، فهو يسكن بحي مجاور لكنه لم يأتِ للموعد فشعرت بقلقٍ وقررت الذهاب للحي الذي يسكن فيه.
الحركة في تلك الأيام كانت صعبة؛ لأن القناصة كانوا ينتشرون فوق الأسطح ويستهدفون أي شيء تحت مرمى القنص، فكنا نهرول لنعبر الشوارع ونتخذ من بعض الأزقة طرقًا للعبور والتنقل، وبينما كنت في الطريق إلى صديقي، هرولت لأجتاز شارعًا فاصلًا تحت مرمى القنص، سمعت أحدًا من الخلف يناديني: «يا قيس صديقك عامر جميل قُتل هذا اليوم!».
لم أعرف في تلك اللحظة كيف أضبط حركة أقدامي المتسارعة، فواصلت الركض في حين اندسّ الخبرُ في روحي، وشعرت برائحة البارود تستوطن ذاكرتي ودمي، وتتلاشى المسافة بيني وبين صديقي، فكنت أركض وأحاول أن أدير وجهي إلى الخلف حيث الشاب الذي كلمني، وحاولت استحضارَ ملامح صوته، لكنْ فشلتُ تمامًا.
الأديب العراقي: أحسست أن روحي تتمزق بعد استشهاد أحد أصدقائي على أيدي داعش
كان الخبر يشبه موتك تمامًا، تشعر بالبرد والخوف معًا، وبرائحة الموت ورائحة ردهات المستشفيات، تدخل روحك وتمارس كل أنواع التعذيب سلخًا وتمزيقًا لحياتك طولاً وعرضًا، بقيتُ مهرولًا نحو بيت صديقي، والصور تتداعى في إيقاع يناسب أصوات القصف والانفجارات وأنا أتساءل: كيف سأعيش إذا بقيت وحيدا في مجرى الحياة؟!.
- كيف حاولت «داعش» تدمير الهوية الثقافية والتاريخية العراقية؟
«داعش» عبارة عن أجندة دولية، وبالتالي تمتلك مشروعًا كونيًا يقوم على محو بعض العلامات الحضارية التي صاغت الفكر البشري، لا سيما في المجال العمراني كالآثار التي محيت عن الحضارة الآشورية، وكذلك مدينة حلب وتراثها، وكذلك هناك محاولات لإقامة هوية بديلة عن الهويات الفرعية، وذلك سيؤدي إلى محو الاختلاف، ولعل المطلع على تاريخ الموصل وحلب تحديدًا سيكتشف أنها أولى الحواضر العربية تاريخيًا فهي أولى المدن الحجرية في العالم، وقد دُمرت وتغيرت هوية هذه المدن بالكامل.
- من أسوأ ما حدث أثناء «الاحتلال الداعشي» تدمير مكتبة جامعة الموصل.. ما الأحاسيس والمشاعر التي خالجتك أثناء رؤيتك لذلك الصرح الثقافي ينهار؟ ولتحدثنا عن دورك في إعادة إنشاء المكتبة وتأهيلها.
لعل المكتبات تمثل كسرًا وتحطيمًا لمفاهيم الجغرافيا، فاجتماع الكتب في مكان محدد ليس إلا تكسيرًا للفواصل وانحلالًا للمسافات؛ فلا تجد غير لغة وحيدة في المكان هي «لغة المعرفة»، ومن هُنا فكل حريق أو تحطم أو قصف لمكتبة في أي تاريخ يمثل وحشية العقل وتراجعه في لحظة ما.
قصف وإحراق مكتبة جامعة الموصل المركزية كان حدثًا فاصلًا لا شك؛ لأنه يشير إلى كمية الرعب التي تسببها الكتب عبر انتظامها على الرفوف، ودمار مكتبة الجامعة كان حدثًا مخجلا لعقل الإنسان، ويشير ذلك إلى أن لحظة التنوير العربية تحطمت وتراجعت بعد سنوات وعقود من الكفاح.
بعد تحرير الموصل لم تعد المكتبة سوى بناية اخترقتها الكثير من الصواريخ والقنابل واحترقت كتبها بالكامل، وبعد فوزي بجائزة الشارقة أُتيحت لنا فرصة اللقاء بالشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي حاكم الشارقة، وتحدثت عما حل بالمكتبة فتبرع بإعادة إعمارها وتزويدها بالكتب اللازمة، ولكن إلى الآن لم يحدث أي إعادة إعمار ونأمل في انطلاق مشروع قريبًا.
- كيف وثَّقت، كروائي وأديب، فترة «الاحتلال الداعشي»؟ وكيف أثَّرت على إبداعاتك؟
لعلنا في حاجة للفصل بين عمل المؤرخ وبين عمل الأديب، فالأدب مهمته رصد التحولات المجتمعية لا سيما في الرواية، وذلك لأنها تعالج مساحات زمنية كبيرة بينما القصة تحاول رصد العالم الداخلي للإنسان بشكل أكثر كثافة وفنية، ومن هنا بوصفي قاصًّا، لدي مشروع رواية أعمل عليها تدور أحداثها في «تل التوبة» وهو مقام النبي يونس، والذي فُجِّر بالكامل، ولدي مجموعة قصصية جديدة تتناول بعض الالتقاطات التي استطعت تدوينها في تلك الفترة.
قيس عمر: مصر استطاعت مواجهة الغزو الفكري رغم هجمات المتطرفين المتتالية
- بمناسبة وجودك حاليًا في حدثٍ ثقافي وفني في مصر، ما رأيك في الجهود المصرية المبذولة لمحاربة الإرهاب فكريا؟ وهل ترى أنها كافية أم بحاجة لتدعيمها وتطويرها؟ وكيف يحدث ذلك التطوير؟
لعل مصر تاريخيًا تعرضت لهجمات المتطرفين قبل الكثير من الدول العربية، لكن الجيد والمثمر أن هناك في مصر بشكل دائم إعادة قراءة للخطاب الديني وفق منهجيات جديدة، واستثمار لطروحات العقل، ويوجد أيضًا جدل إيجابي وتحرير للقراءة، لا سيما للنص التراثي، بما يتناسب مع تحولات المجتمع إقليميًا وعالميًا، وهو ما ساعدها على الاحتفاظ بهويتها رغم الهجمات المتتالية.
لعلنا من أجل ترصين وتدعيم الحوار، ومواجهة الإرهاب الفكري، نحتاج إلى إقامة حوارات موسعة تمتد للقواعد الشعبية للفرد العربي، ومن خلال إعادة فلسفة المناهج الدراسية، وتقنين المؤسسات الدينية عبر لوائح قانونية تحدد اختصاصاتها، وكذلك تنمية الوعي بحقوق الإنسان والتربية الأخلاقية، وكذلك تأكيد أهمية الجماليات، لا سيما المدراس؛ لتكون دروس الرسم والموسيقى أداة لمواجهة قبح العالم وقسوته.