«البرلس»: الموت فى المياه البيضاء
الصيد لا يزال يعتمد على الطرق البدائية
مع اقتراب رفع أذان الفجر فى بلطيم، يتجمع الصيادون فى أحد المساجد القريبة من المرسى لأداء الفريضة، ليبدأ بعد ذلك يوم ملىء بالتحدى والأمل المتمثل فى صيد ثمين يسد جوع الأطفال، بعد الانتهاء من الصلاة ينتشرون فى الطريق المؤدى إلى المراسى فى جماعات متفرقة، عددها ما بين ثمانية إلى عشرة أشخاص، تجمعهم شراكة فيما بينهم، وذلك لأن لكل مجموعة أرضها الخاصة بها داخل الغاب «أماكن صيد الأسماك بالبحيرة على عمق منخفض».
تستقر كل مجموعة فى قارب صغير به مجداف وشراع مصنوع من «الملايات»، يجلسون القرفصاء فى رحلة شاقة، كما وصفها أحدهم، للوصول إلى المياه الراكدة داخل «الخوص» حيث تتجمع الأسماك على عمق لا يزيد على متر ونصف، وعند الوصول إلى النقطة المحددة تدخل كل مجموعة «عشة» صغيرة داخل الغاب والبوص، لتناول وجبة الإفطار وارتداء ملابس الصيد والتوزيع على القوارب الصغيرة التى لا تتسع سوى لفرد واحد فقط.
من المرسى وحتى الوصول إلى أماكن الصيد داخل أعواد «الغاب» يستغرق الصيادون نحو نصف الساعة، يصارعون أمواج المياه «البيضا» كما يطلقون عليها، فبعد أن كانت البحيرة منذ سنوات مكتظة بالبوص، أصبحت وبفعل عمليات التطهير عبارة عن مساحة شاسعة من المياه يصل عمقها داخل البحيرة إلى ما يزيد على أربعة كيلومترات، ما منع بعض الصيادين الذين يملكون وسائل بدائية فى الصيد من الاقتراب بمحاذاة المرسى، ما دفعهم إلى التوغل إلى عمق البحيرة بقوارب صغيرة تغمرها المياه طيلة الرحلة حتى الوصول إلى أماكن الصيد داخل البوص.
«صيد المنشر» والصرف الصحى أبرز تحديات التطوير
داخل إحدى العشش جلس سمير أحمد، ٣٧ سنة، يتناول وجبة الإفطار المكونة من طبق فول بارد يقوم بإضافة الزيت إليه وتقليبه على النار وبعض قطع الخبز الجافة، إضافة إلى كوب من الشاى الساخن.
مهمة «سمير» تقتصر اليوم على المرور على «الجوابى» وجمع ما بها من أسماك، ويوضح لـ«الوطن» أن هناك العديد من الطرق البدائية التى تستخدمها مجموعته والتى لم تعد تتماشى مع تكنولوجيا الصيد الحديثة ما أدى إلى ترك العديد من الصيادين المهنة والاتجاه إلى السوق للعمل بتجارة الخضراوات: «الصيد له أنواع كتيرة لكن إحنا معندناش غير طريقتين اتنين بس هما الجوابى، ودى مصايد سمك فيه منها مخصص للقراميط ونوع تانى للسمك البلطى الكبير والنوع التانى من الصيادة هو الخض أو التطبيش وده بيحتاج النزول فى الميّه ومحاصرة السمك بالغزل والتخبيط فى الميّه علشان السمك يهرب من الغاب ويحاول يخرج بره للميّه البيضا فبيلاقى الشبك قدامه».
ويتابع «سمير» قائلاً: «دورى النهارده إنى ألف على كل الجوابى اللى تبعنا ودى عددها نحو ٢٠٠، وبعد كده أجمع السمك لوحده والقراميط لوحدها وأحطهم فى القفة المخصصة ليهم، ولو فيه جوابى باظت أو ما مسكتش سمك فدى بغير مكانها على طول، وبحط عليها ورق خوص علشان محدش يلف بالليل عليهم يسرقهم».
مساحة شاسعة فى عمق البحيرة من أعواد «البوص» لا تزال موجودة لم يصل إليها التطهير بعد، يتجمع بداخلها الصيادون، تنقسم تلك المساحة إلى ممرات فرعية لا تتسع إلا لمرور قارب صغير، المياه فى تلك المنطقة تكاد تقترب من لون مياه الصرف الصحى وتتميز بالركود والاصفرار، وبها العديد من الحشرات الطائرة كالناموس، وعلى الرغم من ذلك لا يجد هؤلاء الصيادون بديلاً عن تلك الأرض يجلب لهم الرزق مع قلة الإمكانات: «مفيش إمكانية إننا نصطاد فى الميّه البيضا اللى الشركة طهرتها علشان عمقها، فبنيجى نسترزق هنا».
«بدير»: «لما فكروا فى التطوير قالوا هيعملوا ممرات ٢٠ متر عرض وبوص ٨٠ متر لكن ده ما عجبش أصحاب المصالح».. و«إمام»: طريقة التطهير باستخدام الصندوق «سيئة ومُكلفة»
التوغل داخل الممرات التى مهدها الصيادون لمراكبهم يكشف عن وجود العديد من الأسماك النافقة فى أماكن متفرقة والتى فسر لنا موتها خالد راشد بقوله: «هذه الأسماك قراميط وذكور سمك البلطى ولما الشركة طهرت البوغاز رفعت منسوب مياه البحر على البحيرة بعد ما كان العكس، فالمياه المالحة دخلت البحيرة، وده سبب موت أنواع محددة من الأسماك اللى مستحيل تعيش فى المياه المالحة ولو حتى كانت نسبة ملوحتها بسيطة، ده غير إن الملوحة دخلت على البحيرة أنواع جديدة من السمك زى الجمبرى وده بيكون حجمه صغير لما يتقارن باللى موجود فى البحر».
تبدأ مهمة كل مجموعة مع أول ضوء للنهار، حيث تخرج كل قوارب المجموعة متفرقة، وكل فرد منها له مهمة محددة تنتهى مع انتهاء يوم الصيد، إلى جانب فرد الجوابى، يوجد أيضاً أفراد التطبيش ويصل عددهم إلى ٦ أفراد، أربعة منهم تنحصر مهمتهم فى النزول إلى البحيرة والتجميس بها بحثاً عن أسماك بالقاع مع دورهم الرئيسى المتمثل فى ترويع الأسماك من خلال الضرب بأعواد الغاب على سطح المياه والتطبيش بها، ليخرج السمك بعد ذلك مسرعاً للهرب منهم، فتتلقفه مجموعة أخرى مكونة من فردين إلى ثلاثة أفراد، يلفون الغزل حول مساحة الغاب، على أن يكون للغزل باب صغير لتخرج منه المجموعة المكلفة بالتطبيش.
مع دقات الثامنة يعود أفراد كل المجموعة إلى العشش للاستراحة وتناول المشروبات الساخنة كالشاى، وسط المجموعة يجلس قائدهم وأكبرهم سناً، يوزع المهام الجديدة على باقى الأفراد والتى تقتصر على تجهيز الصناديق الخاصة بجمع الأسماك تمهيداً لحملها إلى خارج البحيرة، لتحملها بعد ذلك النساء إلى سوق القرية: «بنخلص على الساعة 10 كده، علشان نلحق نبيعها فى السوق، لأننا مش بنصطاد كميات كبيرة تستاهل إنها تتباع جملة، وأسعار السمك فى الشتاء بتكون أغلى من الصيف، فسعر كيلو الشبار بيوصل لـ١٥ جنيه، هو سعر قليل بالمقارنة بالأسعار فى أماكن تانية، لأن هنا مفيش حد هيشترى بسعر أكتر من ١٥ جنيه علشان معظم الناس صيادين»، قالها أحمد نصر، ٥٨ سنة والذى يعمل بالبحيرة منذ ما يزيد على ٣٦ سنة، مشيراً إلى أن استغراق الشركة المنفذة للتطهير وقتاً طويلاً أدى إلى تفاقم المشاكل بالبحيرة: «النهارده بنتكلم عن التطهير بقالنا أكتر من ٨ سنين، ومش التطهير بس اللى البحيرة محتاجاه لكن نقول إنه الأهم فى الفترة الحالية، الشركة شغالة بالقرب من السواحل وسايبة الدنيا تضرب تقلب جوه البحيرة، ولا عايزين يخلصوا ولا سايبنا نسترزق ونعرف مصيرنا فى المستقبل هيكون إيه».
«بعرجنة»: «مساحة البحيرة فى الستينات كانت ٣ أضعاف والمزارع مخالفة.. لكن الكل عامل مش واخد باله»
عدد من صيادى البحيرة عبروا عن غضبهم الشديد من الأوضاع السيئة التى يعيشونها وسط وعود من المسئولين بتطهيرها والتصدى للصيد الجائر بها ومحاولة الإكثار من الأسماك والحفاظ على تنوعها، مشيرين إلى أن تطهير البحيرة بدأ منذ ما يزيد على ثمانى سنوات، وتوقف عدة مرات قبل أن يتم استكماله قبل عامين وحتى الآن لم تنته الشركة المنفذة من تطهيرها بعد، مؤكدين أن البحيرة تخضع لقوانين المحميات الطبيعية ومع ذلك يتم بها العديد من التجاوزات أبرزها، وبحسب ما قاله الصيادون، صيد الزريعة والمنشر «الأسماك الصغيرة»، بعد إلقائها بساعات ليتم بعد ذلك استخدامها كأعلاف لمزارع الأسماك الخاصة، كما أن الصيد باستخدام الكهرباء مخالفة شائعة بشكل كبير فى البحيرة، ويستغل المخالفون عدم وجود قوات مسطحات مائية كافية لمواجهة تلك التعديات والنزول ليلاً بمراكب كبيرة بها مواتير دفع، ليتم صعق الأسماك حتى تطفو على السطح وتجميعها بعد ذلك قبل انتصاف الليل، وفقاً لما جاء على لسان الصيادين، بالإضافة إلى أن استغراق عملية التطهير وقتاً طويلاً جعل مياه البحر تختلط بمياه البحيرة عند تطهير منطقة البوغاز ما أدى إلى زيادة ملوحة مياه البحيرة وموت بعض الأسماك التى لا تستطيع التأقلم مع ملوحة المياه، كـ«القراميط» وذكر «البلطى».
على سطح قارب صغير وقف محمد بعرجنة، ٥٨ سنة، أحد أقدم صيادى البحيرة، يجمع الأسماك من المصايد التى نصبها قبل يوم، وبعد أن انتهى من الجزء الأول من مهمته جلس يأخذ قسطاً من الراحة: «شغال فى المهنة من أيام ما كانت قرية الخشعة جزء من البحيرة، أفتكر أول يوم صيد ليا كان عندى ١٢ سنة، وماكانتش باكتفى بالبرلس بس فكنت بروح الخشعة ودى بعيدة عن هنا نحو ساعة بالمواصلات وكانت جزء من البحيرة وقتها، الخير زمان كان كتير لكن دلوقتى المشاكل كترت، والسمك قل بسبب الصيد العشوائى والمخالف».
ويسترجع «بعرجنة» ذكرياته مع البحيرة، ويقول: «فى الستينات البحيرة كانت نحو ٣ أضعاف مساحتها دلوقتى، وفى الثمانينات ردموا من الخشعة لحد الطريق الدولى، وخصصوا مزارع سمكية للصيادين وقالوا كل الصيادين اللى معاهم رخصة هياخدوا ٥ فدادين فقدمت أنا وأخويا، وما أخدناش لأنهم خصصوا لناس معينة مساحات بتوصل لـ١٠٠٠ فدان وفى الآخر قالوا المساحة اللى اتنشفت خلصت».
وتابع: «بعد التنشيف وبيع الأرض فى المزاد، سكتنا ورضينا بالأمر الواقع، فصدر قرار باعتبار البحيرة محمية طبيعية، ومن هنا بدأت الثروة السمكية تجمع إيجارات من الصيادين اللى أخدوا مزارع فى البحيرة، كان إيجار الفدان وقتها ٥٠ جنيه، وبعدها بدأت بقى عملية بيع المزارع اللى اتملكت لحد ما بقى فيه ناس عندها مزارع بتوصل لـ١٠٠٠ فدان فى دمرو وكل ده مخالف لأنه واخد من البحيرة».
ويمسك بطرف الحديث وفدى بدير، أحد الصيادين، ٤٦ سنة ويقول: «لما فكروا فى موضوع التطهير قلنا عادى مفيش مشكلة يطهروا وأكيد هيهتموا بينا بعد كده، فى البداية قالوا هيعملوا ممرات عرضها ٢٠ متر ومساحة بوص ٨٠ متر وبكده هيكون الوضع بعرض البحيرة كلها، وكانت فكرة جميلة جداً، لكن معجبتش بتوع المصالح واللى معاهم مراكب كبيرة، فصعب عليهم يدخلوا الممرات الضيقة دى ويصطادوا فيها، فاعترضوا وبعتوا فاكسات وقالوا لازم البوص كله يتشال، طيب النهارده البوص لو اتشال إحنا هناكل منين وهنسترزق إزاى؟ ده حتى محدش فكر فى حالنا هيكون إيه لما كل البحيرة تكون ميّه بيضا، هنصطاد إزاى، وهننزل بالقوارب دى إزاى؟ ما هو لو قعدنا وبطلنا شغل هنموت من الجوع، يبقى مفيش حل غير إنهم يسيبولنا جزيرة وسط المياه نحتمى بيها ونصطاد منها».
ويقول عبدالعزيز سعد، ٢٩ سنة: «نص الصيادين بالظبط خرجوا بره البحيرة، لأن مفيش شغل ليهم جوه بعد ما التطوير عمل مساحات كبيرة من الميّه العميقة اللى مستحيل نعرف نصطاد فيها، عملنا قبل كده أكتر من وقفة احتجاجية مش علشان التطهير، لأ علشان الشركة بتبور أراضى من البحيرة قدامها وبتسيبها وتمشى».
ويشرح وحيد إمام طريقة التطهير والتى يعتبرها سيئة حيث يتم عمل بانتيكة «عبارة عن صندوق فى البحيرة يتم وضع الطين والمياه الناتجة عن التطهير بداخله مع إحاطته بالرمال»: «الطريقة دى بتنشف مساحات كبيرة من البحيرة، وبعد الانتهاء من تطهير الجزء المخصص من المرحلة، الشركة بتطلب ميزانية تانية علشان تطهر الأماكن اللى عليت بسبب أول تطهير على الرغم من أن الدولة ليست مسئولة عن رفع مخلفات التطهير والشركة هى المسئول الأوحد عن ذلك».