المستشار أمير رمزى: الصعيد يمتلك إمكانيات بشرية «مدفونة» ويحتاج اهتماماً أكبر.. ومبادرة الرئيس «حياة كريمة» طوق نجاة للمُعدمين
المستشار أمير رمزى رئيس محكمة استئناف الإسكندرية
لأنه يعمل قاضياً، يرى أن الفقر هو أصل كل الشرور، وهو ما أكده انشغاله فى العمل الخيرى. هكذا قال المستشار أمير رمزى رئيس محكمة استئناف الإسكندرية، ورئيس مجلس أمناء مؤسسة «راعى مصر» الخيرية. وأكد «رمزى» ضرورة التفريق بين أنواع الفقر، فهناك غير القادر، والمحتاج، والمُعدَم، والأخير فى رأيه، أشدهم احتياجاً لأنه يفتقر إلى أبسط الضرورات الإنسانية فى الحياة، ومن هنا جاءت مبادرة الرئيس عبدالفتاح السيسى «حياة كريمة»، لتُمثل طوق الإنقاذ لمن لا تتوافر لديهم أدنى سبل الحياة.
رئيس مجلس أمناء «راعى مصر» الخيرية: «الموبايل كلينك» أوتوبيسات تضم أجهزة وعيادات طبية متنقلة
يضيف «رمزى»، فى حواره لـ«الوطن»، أن الجانب الإنسانى غالباً ما يغلب على القاضى فى تصرفاته وأحكامه، فكثيراً ما ينشغل القضاة أثناء الجلسات بجمع الأموال لتسديد ديون أشخاص غير قادرين على السداد. إلى نص الحوار.
أعلن الرئيس منذ أسابيع عن انطلاق مبادرة «حياة كريمة» للقرى الأكثر فقراً.. فكيف تكون البداية من واقع خبرتك؟
- أحيى مبادرة الرئيس التى من شأنها توفير مسكن وحياة آمنة وإنسانية للفقراء، وهو أساس عملنا الخيرى، وتُعد بمثابة طوق النجاة للآلاف من المعدمين، ونجحنا من خلال مؤسسة «راعى مصر» فى تنفيذ مبادرة حياة كريمة للمعدمين ببعض القرى، ومنها قرية «القطوشة» فى مطاى بالمنيا، وانتهت ببناء 350 منزلاً خلال 5 أعوام، إلى جانب توفير أبسط متطلبات الحياة لهم من مياه وكهرباء وصرف صحى.
ومن أصعب الحالات التى كان لها الأثر الكبير فى نفسى منذ 10 سنوات، أرملة لديها 5 أطفال ينامون على الأرض، ليس لديها سرير واحد أو دورة مياه أو كهرباء، ودخلها الشهرى من الدولة 79 جنيهاً، ما يضطرها إلى الاستدانة دون أن تملك طريقة لسداد هذه الديون المتراكمة، وعندما سألتها عما تناولوه فى وجبة العشاء الليلة الماضية، قالت إنها لم تجد أى شىء لإطعام أطفالها فلجأت إلى وضع بعض الخبز فى المياه ليتناولوه، وكانت هناك حالة أصعب عن أسرة مكونة من أب وأم و4 أطفال يعيشون أسفل عربة «حنطور» بعد أن دمرت السيول منزلهم، وكانوا فى حاجة لـ15 ألف جنيه لبناء المنزل لكن دخل الأب لا يتعدى 700 جنيه شهرياً، وهنا أدركت ضرورة وجود تصنيف للفقر، والتفريق بين غير القادر والمحتاج والمُعدم، فالمعدم لديه مشكلة مع الإنسانية، لذا لا بد من توفير أبسط سبل الحياة له أولاً، من منزل صالح للمعيشة وكهرباء ومياه، فهناك كثيرون يشربون المياه الجوفية وهى فى الغالب مختلطة بمياه الصرف الصحى، فينتهى بهم الحال على سرير المرض، وتخيل أن فى 2019 هناك الآلاف الذين ما زالوا يعانون لعدم وجود دورة مياه بالمنزل، ومن أصعب الحالات التى واجهتها كانت لسيدة فى المنيا لديها 3 بنات، خرجت إحداهن لقضاء حاجتها فى الخلاء ورصدها بلطجى واغتصبها، فاجتمع المجلس العرفى وقرر تزويجها من البلطجى، فرحلت الفتاة من القرية بلا رجعة، وتبرأ أهلها منها رغم كونها الضحية. ولما سألنا الأم عن عدم تأسيس دورة مياه بالمنزل، قالت لى إن معاشها 79 جنيهاً، ومطلوب منها توفير 800 جنيه لبناء دورة المياه، وهذا يعنى حرمان أطفالها من الطعام لمدة 10 شهور، ومن هنا أدركت أن دورنا هو توفير الجانب الإنسانى لحياة المُعدم وهذا ليس مسئولية الدولة وحدها.
خلال عملك كقاضٍ، ما أصعب الحالات الإنسانية التى تعاملت معها بروح القانون؟
- مهنة القضاء عظيمة، وأتشرف كونى خريج هذه المدرسة، وميزتها أنها تجعل القاضى ينظر إلى المجتمع باختلاف أشكاله من منصة القضاء، فيرى المجرم والبرىء والغنى والفقير والدكتور والمهندس والعالم والبلطجى، والقاضى إنساناً قبل أى شىء، وقد مررنا بالكثير من الحالات الإنسانية الصعبة، وعليه أيضاً أن يقتص من الجانى وينصف المظلوم، وتطهير المجتمع من شر الظالمين، ومهنة القضاء ساعدتنى كثيراً على خدمة المجتمع، وعززت لدى الرغبة فى خدمة الفقير والمظلوم، ففى كثير من الأحيان كان القضاة يجمعون أموالاً لتسديد ديون غير القادرين بعد محاولات لإقناع الدائن بالتنازل عن القضية، فالجانب الإنسانى دائماً ما يغلب على القاضى فى تصرفاته وأحكامه.
اتفقنا مع وزارة الصحة على تجهيز «راعى مصر» بالطواقم البشرية والمستلزمات الطبية.. والمؤسسة لديها 5 مستشفيات ونستهدف زيادتها إلى 100 مستشفى لعلاج 5 ملايين مريض
ماذا عن البروتوكول الأخير مع وزارة الصحة حول مشروعكم الرائد «المستشفيات المتنقلة»؟
- المستشفيات المتنقلة أو ما اصطلح على تسميته «الموبايل كلينك»، هى أوتوبيسات مجهزة كمستشفيات صغيرة، ومقسمة من الداخل إلى عيادات طبية تخدم قرى ونجوع الصعيد الفقيرة، والتى تعانى عدم وجود خدمات صحية فى نطاقها، ومن أحلامى توفير 100 مستشفى متنقل، ولا نملك الآن سوى 5 مستشفيات من هذا النوع، ولو استطعنا توفير عشرات المستشفيات سنتمكن من علاج 5 ملايين مريض فى الصعيد، وتُقدر تكلفة المستشفى المتنقل الواحد بـ650 ألف جنيه شاملة كل التجهيزات، و40 ألف جنيه للمصروفات الشهرية، ونخدم حالياً 5 آلاف حالة شهرياً، وصرف الأدوية بالمجان، ضمنهم الكثير من الحالات الصعبة التى تحتاج لعناية طبية فائقة، ولا نحتاج تضامن الدولة وحدها لكن تضامن المجتمع المدنى بشكل أكبر، فالمؤسسة وحدها لن تستطيع الوصول إلى كل الفقراء والمحتاجين، ولكن يستطيع الغنى إسعاد الفقير بالمساعدة على توفير حياة كريمة لغيره المحتاج، ووجدنا خلال عملنا أطفالاً مصابين بالقلب لأن ذويهم لا يملكون جنيهين ونصف الجنيه ثمن المواصلات لأقرب مستشفى.
والمستشفيات المتنقلة تستهدف علاج المرضى الفقراء غير القادرين، فيسافر الأوتوبيس وفريق من الأطباء إلى النجوع، ويقسم الأوتوبيس من الداخل إلى 3 عيادات طبية ملحق بها عيادتان خارجيتان، وغرفة أشعة خارجية وصيدلية متنقلة لتوفير العلاج مجاناً للمرضى الفقراء، إلى جانب توفير معمل تحاليل خارجى، وستتولى وزارة الصحة بموجب البروتوكول توفير احتياجات المستشفيات المتنقلة من القوى البشرية والأدوية والمستلزمات الطبية، فيما تلتزم المؤسسة بالإسهام بكل إمكانياتها فى القوافل العلاجية بمناطق الكوارث والطوارئ.
وماذا فعلتم بمنطقة «زرايب 15 مايو» وتُمثل كارثة بيئية وإنسانية فى قلب القاهرة؟
- هى أسوأ منطقة عشوائية موجودة فى مصر، فلا يوجد بها كهرباء أو مياه أو صرف صحى أو أى إمكانيات بيئية وصحية تؤهلهم للحياة الإنسانية، ويعيش فيها نحو 750 أسرة بواقع 3500 نسمة تحت خط الفقر بمراحل، وكأنها منطقة غير موجودة بمصر رغم أنهم يترددون على أفخم المناطق السكنية لجمع القمامة، ولن تستطيع المؤسسات الخيرية وحدها أن تفى باحتياجات هذه المنطقة، بل بحاجة إلى تدخل عاجل من الدولة، فكل أسرة تعيش فى غرفة واحدة والكثير من المنازل مسقوفة بالبطاطين والأكياس، وهى منطقة تفتقر لكل قواعد الإنسانية، ولديهم مشاكل كثيرة لعدم وجود مدارس بالقرب منهم فيضطر الأبناء إلى السير لمسافات طويلة لأقرب مدرسة، وعلمت أن إحدى المدرسات طلبت من أبناء زرايب 15 مايو بالتحديد جمع القمامة من المدرسة، وهو أمر مُهين ومرفوض.
والمؤسسة بحاجة إلى مساعدة الدولة بإمكانياتها لتستطيع توفير أبسط متطلبات الحياة مثل الكهرباء، والمياه، والصرف الصحى، ورصف الشوارع، وفى دراسة جدوى عن المنطقة وجدنا أننا بحاجة إلى عشرات الملايين، كما يصعب نقلهم لمكان آخر لأن أعمالهم مرتبطة بالمنطقة، ومنذ فترة تدخلت الدولة لإنقاذ المنطقة من السيول بإنشاء مخرات، وهذا يعنى أن الدولة على علم بما تعانيه هذه المنطقة من تدنٍ فى مستوى المعيشة، وتدخلت بعض المساعدات لبناء مركز صحى وحضانة، لكن المركز الصحى لا يعمل لعدم جاهزيته، والمطلوب من الدولة مساعدتهم لتغيير حياتهم للأفضل على غرار ما فعلته بالمناطق العشوائية الأخرى، والمؤسسة مستعدة للتعاون مع الدولة لإنقاذ المنطقة.
أحياناً ينشغل القضاة فى المحكمة بجمع الأموال لتسديد ديون غير القادرين بعد محاولات لإقناع الدائن بالتنازل عن القضية.. فالجانب الإنسانى يغلب على القاضى فى تصرفاته وأحكامه
(هانى وأمير وإيهاب رمزى).. رغم اختلاف مجالات العمل فإن فعل الخير جمعكم فى مؤسسة «راعى مصر»، فكيف جاءت الفكرة؟
- لا شك أن الجو الأسرى بيننا له الفضل فى توجه أسرتى لتأسيس تلك المؤسسة، فمنذ عام 1994 كنت أنا وزوجتى وابن خالتى نساعد المحتاجين بشكل منفرد، وفى عام 2005 انضم إلينا الكثير من رجال الأعمال والقضاة، فبدأنا العمل الخيرى من «بنى مزار» فى المنيا ثم توسعنا إلى بنى سويف وأسيوط وسوهاج وقنا والأقصر وأخيراً أسوان، وبكل محافظة نذهب إليها يتم تشكيل فريق عمل مسئول عن رصد المعدمين، وعلى مدار أكثر من 12 عاماً نذهب سنوياً أنا والفنان هانى رمزى إلى أمريكا وأستراليا وكندا، لجمع الأموال للمؤسسة، وننظم حفلات يتحدث فيها هانى إلى الحاضرين لتوضيح احتياجات الفقراء بهدف جمع الأموال وتوجيهها للعمل الخيرى.
وماذا عن دعم الفقراء بتعليمهم حرفة بدلاً من الاعتماد فقط على المساعدات؟
- لدينا الكثير من الحالات التى تم تبنيها ومساعدتها فى امتلاك مشروع صغير، وهذا أهم أنشطة المؤسسة، واخترنا المشروعات الصغيرة لأنها تُحدث تغييراً سريعاً فى حياة الأسرة، ولا تتطلب انتظار الوقت، وعلى سبيل المثال عندما نوفر ماكينة خياطة أو ماشية أو كشك بقالة أو بضاعة ما، فهذا يُغير شكل الحياة داخل الأسرة بالكامل رغم بساطة ما نقدمه، فإذا دخلنا إلى قرية يسكنها 500 أسرة سنجد أن معظم أهلها يعملون فى الزراعة والباقى لا يملك عملاً، ودائماً ما كنت أتمنى أن توفر الدولة مشروعات صغيرة للأسر الفقيرة وتنشيط عملية الإنتاج من داخل المنازل، ثم التوجه بها إلى منافذ بيع توفرها الدولة لشراء هذه المنتجات من الأسر، مثلما يحدث فى الدول المتقدمة، وبهذا نستطيع حل مشكلة الهجرة الداخلية.
فى زيارتى لمعظم الحالات المعُدمة وجدنا أن غياب الأب هو السبب الرئيسى فى تدهور مستواهم المعيشى، سواء كان متوفى أو غائباً أو غير قادر على العمل لأى سبب، ووجدنا أن المرأة تقوم بدور الأب والأم معاً، فتتولى توفير احتياجات أولادها من طعام وصحة وتعليم وخلافه، وكانت هناك حالة بعينها أثارت فى نفسى الدهشة، فالسيدة نادية محمد أحمد كانت تسكن فى القاهرة مع زوجها الذى يعمل بواباً وأولادها الـ4، وعندما توفى الزوج عادت إلى بلدتها سوهاج بقرية الشيخ مكرم، لتعيش فى منزل لا توجد به أى من متطلبات الحياة الإنسانية، وفوجئت عندما وجدتها حريصة على تعليم أطفالها، فعرضنا عليها المساعدة وطلبت منا أن نبنى لها منزلها من الخرسانة ليستطيع أطفالها بعد سنوات بناء طوابق أخرى فوق الدار عند الزواج، وبالفعل نفذت المؤسسة طلبها، ومن هنا أدركت أن المرأة قادرة على تحمل المسئولية بشكل كبير، ولم أصادف على الإطلاق سيدة واعية إلا وانصب اهتمامها على تعليم أولادها والسعى لبناء مستقبلهم، ووجدت بإحدى المرات سيدة بلا منزل تقريباً ولديها ولدان كافحت لتعليمهما حتى حصلا على مجموع كبير فى الثانوية العامة، والتحق أحدهما بكلية الهندسة فيما آثر الآخر العمل لتوفير احتياجات شقيقه، وآنذاك تكفلت المؤسسة بهما والتحق كلاهما بالهندسة.
أطالب الدولة بالتدخل العاجل لإنقاذ منطقة «زرايب 15 مايو» والمؤسسات الخيرية لن تستطيع وحدها الوفاء باحتياجات 750 أسرة تحت خط الفقر بلا كهرباء أو مياه أو صرف
فى رأيك.. هل يُعطل الفقر طاقة الإبداع عند الأشخاص؟
- يؤثر الفقر بشكل مباشر على روح الإبداع والابتكار، فمصر لا تمتلك أحمد زويل ومجدى يعقوب ومحمد صلاح فقط، لكن نملك ثروة بشرية هائلة بينها عقول عظيمة لكنها مغمورة، وهى قادرة على تغيير مجتمعات بأكملها، لكن ينقصها الفرص، ففى الصعيد هناك إمكانيات بشرية مدفونة تسعى للحصول على الفرصة لتُظهر إبداعها فى النور، كما لدينا أكثر من 4000 متطوع فى الصعيد اكتشفنا لديهم القدرة على التفكير والإبداع وتغيير المجتمع بشكل جذرى، فالتنمية المجتمعية هى الطريق الوحيد لإظهار العقول المفكرة والمبدعة، ولن يأتى هذا إلا بتوفير المشروعات ونشر التوعية، وهذا ما تسير على خطاه الدولة الآن، لكننا بحاجة إلى المزيد من العمل والجهد فالدولة وحدها لن تستطيع التقدم للأمام ولا بد من مشاركة المجتمع، لذلك أطلب من الدولة توفير مراكز تدريب لشباب الصعيد على وجه الخصوص لتؤهلهم إلى سوق العمل، فهناك الكثير من المصانع والشركات التى تفتقر إلى العمالة وبحاجة إلى كوادر بشرية قادرة على الإنتاج، وهذا لن يتوافر فى شبابنا إلا من خلال مراكز التدريب.
وما الدور المنوط بالحكومة فى رأيك؟
- أتمنى أن تعقد الحكومة اجتماعاً شهرياً أو ربع سنوى مع مسئولى الجمعيات الخيرية، لمناقشة احتياجات المجتمع ومعرفة المطلوب لرفع مستواه، وأطلب الاهتمام بالصعيد بشكل أكبر، فمساحة الوجه القبلى أكثر من نصف مساحة مصر، والوضع الإنسانى بالنجوع والقرى صعب بشكل كبير، ولا بد أن يحوز على النصيب الأكبر من اهتمام الدولة.