قبل ساعات من «رقصة الاعتزال».. عازف صاجات الغورية: «المسرح هيوحشني»
عادل يوسف، عازف صاجات الغورية
كأنه طفل مشاكس، يخطف بلهوه عيون الحاضرين، يدخل إلى المسرح، ثم يعزف بآلته، فينصت الجميع، وتختفى الابتهالات وتتوقف الآلات الأخرى عن العزف، حتى يشير للفرقة باستكمال الرقص، ويعود النغم متجانسا من جديد. يفعل كل هذا بصاجاته النحاسية، وشعره الذى يسدله على كتفيه، وابتساماته وآهاته.
ساعات قليلة تفصل ذلك «الطفل» عن رقصته الأخيرة فوق مسرح قبة السلطان الغورى بالقاهرة، فاليوم الأربعاء عيد ميلاده، وهو المتمم أيضا لعامه الـ60، ليمضى عادل يوسف إلى حياة أخرى بعيدا عن فرقة التنورة التراثية، وبعيدا عن القبة، بعد 31 عاما قضاها داخل ذلك المكان، الذى عرف فيه بأنه أقدم أفرادها وأشهرهم كذلك، وضابط إيقاع الفرقة كذلك.
كان طفلا تسحر عينيه «لفيفة التنورة» في الموالد والحفلات، وتجذب انتباهه أصوات الآلات الموسيقية، حين كان والده يصطحبه معه، فيشاهد ويسمع ثم يتخيل نفسه مكان أحد هؤلاء الذين يصفق لهم الناس إعجابا، ويطلبون منهم المزيد من الفقرات، حتى أدرك والده حب الصغير لذلك العمل، فدربه وأحسن تدريبه حتى صار فردا مهما فى فرقة والده، الذى كان مريدا في الطريقة الرفاعية الصوفية: «عملت من الكازوزة صاجات، كنت بجيبها من الشارع وألعب بيها، لحد ما أمي قالت لأبويا شوف ابنك» في تلك اللحظة أدرك يوسف أن ابنه عادل وقع في غرام تلك الآلة النحاسية، فاشترى له واحدة، وألقاها بين يديه، وتركه يحاول تعلمها، حتى أجلسه أمامه وصار يلقنه دروسها شيئا فشيئا: «لحد ما بقيت بريمو، أمسك الطورة وألعب وأجنن الناس وأخطف الأضواء، ورغم إني كنت لفيف وعزفت حاجات كتير بس حبيت الطورة أكتر حاجة».
فى 1977 توفى يوسف فايد، والد عادل، وبعد ذلك التاريخ، التقى عادل بالدكتور صلاح عناني، الفنان التشكيلي، الذي أخبره حول رغبته في وجود فرقة تهتم بشأن التنورة، فكان قرار عادل بالبحث عن أفضل من يعرف في ذلك المجال، وكانت الفرقة مكونة من 10 أفراد، وصلت الآن إلى 60 شخصا: «كنت في الأول في موالد وحفلات ومهرجانات، لحد ما اشتغلت بقى في قصر الغوري، تبع الهيئة العامة لقصور الثقافة» يحكي الرجل بينما كان يجلس داخل وكالة الغوري، متذكرا حين كان في أحد السفريات مع عناني: «قاللي النمرة اللي بتعملها بالطورة حلوة ليه متخليهاش حاجة ثابتة، فساعتها اشترت زمايلي وبقيت برقص بالطورة اللي هيا الصاجات ومبسيبهاش بقى».
يخرج من حقيبة معه تلك الصاجات النحاسية، يربط في كل واحدة منها قطعة من المطاط، تمكنه من إمساكها بإصبع واحد، فتكون الصاجات في 4 أصابع من يد الرجل، ثم يعزف بها، فى خفة ومهارة وسرعة: «عندي حوالي 10 صاجات، بحبهم وبحب أقتنيهم، لكن أحلى واحدة كانت بتاعة أبويا وعمي خدها لما أبويا مات، ومرات عمي احتفظت بيها». يتذكر حين كانت الواحدة من تلك الصاجات بـ10 جنيهات قديما، وتخطت الآن الـ300 جنيه، ويحتفظ داخل أحد الأدراج الخاصة به داخل الوكالة، في الغرفة المخصصة لتغيير الملابس، بكيس من القطن، ينظف به الصاجات كل مرة قبل أن يصعد المسرح للرقص: «أنا موتى وسمى من اللي يسرق مني الأضواء، لازم أبقى جاهز ومركز وطالع متأكد إني هبهر الناس» بينما كانت في الحقيبة التي إلى جواره، طاقية بيضاء وشال أبيض يلف به تلك العمامة، وجلابية بيضاء يرقص بها، وبخاخة مياه يرش بها على شعره: «زمان كنت بجهز للرقص، بعمل رياضة وأسخن وبتاع، دلوقتى لا خلاص بقيت بطلع على المسرح جاهز، بس مش غرور إنما ثقة». يخفي شعره أسفل تلك طاقية بنية اللون، فإذا ما ارتدى عمامته التي يلفها بعناية بالغة قبل الرقص، أطلق شعره، فهو جزء من شخصيته على ذلك المسرح، ويتذكر شعر والده الذى كان يصل إلى منتصف ظهره، بحسب ما تشير يده أثناء الحديث: «كل حاجة فيا جزء من شخصيتي، شعري الطويل، الآهات اللي ممكن أقولها فجأة، الابتسامة الحلوة، وعشان كده ليا تقل على المسرح».
مشاعر مختلطة، اليوم يتم الاحتفال بعيد ميلاده لأول مرة، فعلى مدار 60 عاما لم يسبق له الاحتفال به. يبتسم كما لو كان طفلا، لدى حديثه عن الأمر: «بكرة بقى عيالي وأحفادي، وحبايبي والناس هنا هيجيبولى تورتة، ويحتفلوا معايا، ودي أول مرة تحصل في حياتي» لكن تلك الابتسامة لا تلبث حتى تتحول إلى علامات حزن: «بس جمهور الغورية هيوحشني، الكبير والصغير والغني والفقير، كل دول هيوحشوني أوى، وعيد ميلادي بيتوافق مع آخر مرة ليا هنا». ثم تلمع عينيه، وهو يتحدث عن أيامه المقبلة، فهو بصدد إنشاء فرقة تهتم بالتنورة بعيدا عن تلك التابعة للمجلس الأعلى للثقافة: «ومش هبطل رقص إلا لما أموت، زي أبويا بالظبط، مبطلش شغل إلا لما مات».
أكثر اللحظات التى تسعد الرجل حين يراه أحد الأطفال، ويخبره أنه شاهده ذات مرة بينما يلعب بالصاجات، أو حين يسلم أحد المارة في الشارع، ويخبره أنه يعرفه بالاسم.. كان يحكي تلك الكلمات بينما يقف في شارع الأزهر، حين مر من أمامه بائع سريح، فيتوقف للحديث معه، ويخبره أنه شاهده ذات مرة عبر الإنترنت، فيسر الرجل لذلك سرورا شديدا: «أهو دي اكتر حاجة ممكن تفرحني وتخليني مبسوط، وإحساسي بالحياة وحلاوتها قد الدنيا». يتذكر كذلك بعبارات أسى ووجه حزين، حين أخبره أحد الشباب في العرض قبل السابق، أنه يأسف لتوقفه عن الرقص داخل قبة الغوري، بعدما اعتاد الشاب المجيء للمكان في كل سبت واثنين وأربعاء، الأيام الخاصة بعروض الفرقة: «بس هيا الحياة كده، مضطر أبطل هنا عشان طلعت معاش، وخلاص بقى عايز أعمل لنفسي فرقة».
على المسرح، يقف عادل حاضر الذهن، يغلق عينيه أحيانا، ثم يفتحها برى رد فعل الجمهور، أو ليشير لآخر بالدخول إلى العزف، ويقدم العروض بأكثر من شكل وعزف، ويتذكر حين أخذه الغرور ذات مرة، وقام بتحدي أحد الأشخاص في دولة أجنبية، ضمن دول كثيرة سافر إليها مع الفرقة، وسقطت إحدى الصاجات من يده، فألقى بالأخرى إلى جوارها، وصار يعزف بصاجتين بيد واحدة، باعتبار أن ذلك ضمن العرض، لكنه كان يعلم في قرارة نفسه أنه وقع في خطأ: «ومن ساعتها مبيركبنيش الغرور، وبدعي ربنا يحفظني منه». يعرف متى يدخل إلى المسرح، وكيف يسرق الأضواء، وبأي وسيلة يلوم عازف آخر لم يبدأ في اللحظة المناسبة عزفه، وذلك كله دون أن يلحظ المتفرجون ذلك: «النجاح مش فتونة، النجاح احترام، لكل الناس العيل الصغير اللي بيتفرج للراجل الكبير اللي معاك على المسرح».
داخل منزله، لا يهتم الرجل كثيرا بأمر الصاجات ولا التنورة، لديه ابن وابنة، لم يستطع دفعهما تجاه محبة ذلك الفن، وله أحفاد يسلون وقته ويملأون عليه حياته، وحين يضيق به المنزل ينزل إلى الشارع للعب الكوتشينة والطاولة على المقاهي: «إحنا كنا زمان في الحسنية وبعد كده قعدنا في الجمالية، وبعد كده أنا رحت منازل سوزان مبارك، وقاعد هناك وليا صحاب وناس حبايبي بقضي معاهم وقتي». في بعض الأوقات يجد الرجل نفسه يبحث عن الصاجات، ثم يقوم للرقص داخل المنزل، يرى في الأمر وسيلته أحيانا لتمضية الوقت، أو البحث عن راحة نفسية، غير أنه حين يقع في مشكلة كبيرة لا يؤثر ذلك على عمله: «بفصل كويس أوي بين شغلي وبين حياتي الشخصية، لما أمي الله يرحمها ماتت، كانت الجنازة الثلاثاء، وعندي شغل يوم الأربعاء، والناس كلها استغربت إني حضرت واشتغلت من غير ما حد يحس بزعلي».
يخشى الرجل على ذلك الفن من الاندثار، يرى أن المقبلون على تعلمه قلائل، ويرى أن الدعم المقدم لذلك الفن قليل، ورغم أن له جمهوره، الذين يملأون قبة الغوري، إلا أن كثير من الشباب يحجم عن تعلمه: «وعشان كده قلقان وخايف على الفن ده، بس أنا شخصيا ناوي أعلم ناس وأدربهم، وأعمل فرقة قريب، عشان تفضل التنورة والربابة والسلامية والطبلة والصاجات موجودة ومستمرة».