قسم مصر القديمة.. مبنى معطل.. وكلاب ضالة ومدمنون
فى عصر يوم الجمعة 28 يناير 2011، المعروف بـ«جمعة الغضب»، كان قسم شرطة مصر القديمة قد تحول إلى مكعبات خرسانية متفحمة، بعدما فجّر مجهولون أتوبيس نقل عام داخل ساحته الأمامية، ما دفع قوات الشرطة بالقسم ممن نجوا من القتل وقتها إلى الهرب خوفاً من الموت المحقق على أيدى الثوار الغاضبين.
ومنذ ذلك التاريخ، لم يُرمَّم القسم المطل على كورنيش النيل، واكتفت وزارة الداخلية بإدارة الشئون الأمنية للمنطقة التى تقع فى دائرة القسم من «مقر مؤقت» فى الفسطاط بجوار مقر «أمن الدولة» سابقاً.
وفى مدخل القسم المحترق يقابلك كشك حراسة صغير محاط بسور يختبئ خلفه فراش نوم بسيط، هو عبارة عن لحاف متسخ ووسادة أكثر اتساخاً ينبعث منهما رائحة البول. وبمجرد دخول القسم المهجور تُهرع الكلاب الضالة خارجة من البوابة خوفاً من الزوار الجدد غير المألوفين لها. فى الداخل تنتشر أعقاب السجائر بكثافة وبعض «الحقن» (السرنجات) المستخدمة الملقاة على الأرض المكسوة بالركام، أبواب الغرف الخشبية والحديدية تم انتزاعها بالكامل، حتى شعار وزارة الداخلية أعلى منصة كتابة المحاضر تم انتزاعه.[SecondImage]
ويقول شريف رجب، صاحب محل عصير قصب بجوار القسم، عن مسيرة المتظاهرين فى «جمعة الغضب» 28 يناير 2011: «كنت موجود يوم 28 يناير، وشفت الناس وهما جايين ناحية القسم وحصل ضرب نار عليهم، وبعدين ناس وقفت أتوبيس كبير ودخلت بيه لحد بوابة القسم وفتحوا التانك بتاعه وولعوا فى الأتوبيس لحد ما انفجر فى القسم وناس كتير ماتت واللى مماتش من الشرطة هرب».
ومنذ ذلك الحين و«شريف»، هو وكل أصحاب المحلات بالمنطقة، يُضطرون لإغلاق محالهم نظراً للظروف الأمنية: «شغلى حالياً بيبقى من الساعة 7 الصبح للساعة واحدة نص الليل، ماقدرش أفتح دقيقة بعدها بسبب غياب الأمن. قبل 28 يناير 2011 كنت بافتح المحل 24 ساعة فى اليوم، ومش أنا لوحدى، تقريباً كل المحلات اللى هنا فى المنطقة».
يقول «رجب»: «ممكن فى أيام نقفل قبل الساعة 9 أصلاً، وممكن أيام نقفل العصر، لأن مفيش شرطة قريبة بعد ما نقلوا القسم إلى الفسطاط آخر الدنيا، يعنى من كام يوم مثلاً ضرب النار اللى حصل بين عائلتين من عائلات المنطقة، فاضطر كل أصحاب المحلات إنهم يقفلوا من الساعة 9 بالليل».
ويشير إلى أنه تعرض شخصياً للسرقة 3 مرات منذ 28 يناير 2011 تاريخ اقتحام القسم، أولها «كانت يوم 28 يناير 2011 يوم الاقتحام اتسرق منى فيها مبرد ومقدرتش أتكلم يومها مع حد، وتانى مرة اتسرق منى ثلاجة حاجة ساقعة، وتالت مرة كانت من شهر تقريباً سرقوا منى فلوس.. السرقة والكلام ده مكانش ممكن يحصل أيام ما كان القسم شغال. دلوقتى بيحصل على عينك يا تاجر».
ويمتلك طارق عبده صالح محلاً لبيع الحلوى وتصوير المستندات يقع بين قسم الشرطة ومكتب بريد مصر القديمة فى بداية شارع محمد الصغير المتفرع من كورنيش النيل بمصر القديمة. يلخص «صالح» حاله قبل وبعد اقتحام القسم بقوله: «كنت باصور أوراق ومستندات للجمهور علشان يخلصوا مصالحهم فى القسم.. ودلوقتى لا فيه قسم ولا جمهور ولا تصوير.. مفيش غير الكلاب الضالة اللى استوطنت القسم من 2011».
القسم الذى هُجر مقره الرئيس ونُقلت قوته إلى مقر مؤقت بالفسطاط الجديدة، ويتبعه مصر القديمة، وأجزاء من المنيل، ومار جرجس، وأجزاء من الملك الصالح، والفسطاط، والمماليك، وفم الخليج حتى السيدة زينب.
ووفقاً لـ«طارق»، القاطن بالمنطقة التابعة للقسم، فإن معدل وقوع جرائم السرقة والقتل ازداد بشدة بعد نقل مقره إلى الفسطاط الجديدة: «عايز أقولك إن مراتى لسه مسروقة فى المنيل، كانت رايحة تدفع مصاريف مدرسة الأولاد مسكها اتنين جروها على الأرض وبهدلوها فى عز الضهر وأخدوا منها الفلوس، المنيل اللى قبل الثورة كانت محكومة تماماً».
وعن قسم مصر القديمة المهجور يقول صاحب محل تصوير المستندات المجاور للمقر، إن «ثمة أشخاص مجهولون يبيتون كل ليلة داخل القسم، فضلاً عن تحوله إلى وكر لتعاطى المخدرات بمختلف أنواعها عن طريق الحقن أو تدخين الحشيش».
ويتابع «طارق»: «تخيل المكتب اللى كان مكتب المأمور يبقى وكر لشرب الحشيش وتعاطى المخدرات وضرب الحقن.. وطبعاً محدش من المواطنين يقدر يقول لحد خارج من القسم إنت كنت بتعمل إيه جوه؟ يمكن يكون معاه سلاح ولّا حاجة».
وقبل اقتحام القسم، كان بإمكان المواطنين بالمناطق الداخلة فى حيزه استخراج عدة تصاريح من المقر ذاته، لكن الآن تم توزيع المصالح التى كان يؤديها القسم على عدة مقار كما يوضح طارق عبده: «تصاريح العمل راحت قسم دار السلام، وعمل المحاضر بقى فى مقر القسم المؤقت فى الفسطاط عند أمن الدولة، وبطاقات الرقم القومى تم تحويلها على عابدين، وإدارة التجنيد تم تحويلها على الزهراء، ولو الواحد عايز يعمل الورق ده كله هيبقى محتاج أربع أو خمس أيام علشان يخلص ورقه، غير الشحططة غير الطوابير اللى على كل ورقة من دول».
ويواصل «صالح»: «لسه لحد دلوقتى فيه ناس بييجوا عايزين يخلصوا أوراق رسمية وبيلاقوا القسم لسه مترممش يتفاجأوا، ولما بيسألونى باعرف منهم هما محتاجين أنهى ورقة وأدلهم على المكان الجديد اللى اتحولت عليه.. طبعا بيتكدروا، غير إن المواصلات لمكان زى الفسطاط قليلة، فالواحد محتاج تاكسى يدفعله 10 أو 20 جنيه.. مين معاه لده؟».
ويضيف صاحب المحل، «من يناير 2011 وأنا مش شغال زى الأول، كنت مشغل معايا آنسة علشان ماكنتش ملاحق على الشغل، دلوقتى مفيش شغل وماقدرش أدفع مرتب لحد معايا لأنى ملزم بدفع إيجار شهرى، اللى عملته فى 10 سنين راح فى السنتين تلاتة دول. ماكنتش باقعد فى المكتبة بتاعتى، ماكنتش فاضى أشرب حتى كوباية الشاى.. كله راح».
وتراكمت القمامة وجذوع الشجر حول المقر الشرطى المهجور.
ويقول «عبده»: «أغلب أقسام البوليس اتعرضت للاقتحام والتدمير والحرق فى يوم الغضب 28 يناير 2011، لكن كل الأقسام تقريباً اترممت فى وقتها، حتى قسم الشرابية اللى فضل هو كمان فترة طويلة بدون ترميم اترمم من كام شهر.. إشمعنى قسم مصر القديمة؟».
التساؤل ذاته يشغل ثروت عبدالغنى، أحد سكان مصر القديمة، الذى يقول إن مهندسين تابعين لشركة «المقاولون العرب» حضروا لرفع مقاسات القسم، «ولما سألناهم قالوا إنهم بيرفعوا المقاسات استعداداً لترميمه وتشغيله من جديد فى بداية السنة الجديدة 2014».
ويشير «عبدالغنى» إلى المقر الشرطى السابق وهو يقول: «أهى أول السنة الجديدة جات ومحدش حط مقشة حتى ينضف الزبالة اللى ردمت القسم، وأهو فات على تخريبه 3 سنين كاملة».