«الحضارة المصرية» بالفسطاط.. متحف مع إيقاف التنفيذ
يتوسط المتحف القومى للحضارة منطقة الفسطاط فى مصر القديمة، ويطل على بحيرة عين الصيرة شرقاً، وبالقرب منه مجمع الأديان غرباً، وتحيطه حديقة الفسطاط وبقايا سور مجرى العيون من الشمال.
توجد فى المتحف حفريات قديمة ومصبغة أثرية، يعتلى المبنى الرئيسى هرم صغير يعلن عن أهمية المكان وارتباطه بالتاريخ، بدأ العمل فيه عام 2004 منذ 10 سنوات، وتكلف نحو 700 مليون جنيه، ولم يجرِ افتتاحه حتى الآن، رغم وجود مئات الباحثين والأثريين حديثى التخرج لا يتحرك لهم ساكن، ينتظرون افتتاح المتحف الذى سيغير شكل المنطقة، ويحولها إلى منطقة جذب للسياح والمصريين، لما يحتويه من كنوز تاريخية وشروح لأعظم الحضارات الإنسانية على مر التاريخ، فضلاً عن موقعه فى قلب منطقة تعج بالآثار والطبيعة والتاريخ، بعيداً عن الكتلة السكنية والشرطية.[FirstQuote]
«الوطن» زارت المتحف ورصدت الأوضاع داخله، والتقت عدداً من الأثريين الذين لا يفعلون شيئاً منذ تعيينهم سوى الانتظار وتقديم الشكاوى من تأخر افتتاح المتحف لمدة تزيد على 3 سنوات.
ترجع فكرة إنشاء المتحف القومى للحضارة المصرية إلى عام 1978، عندما أعلنت الحكومة عزمها بناء متحفين جديدين، بالتعاون مع منظمة اليونسكو؛ هما متحف النوبة فى أسوان، ليضم مجموعة من الآثار النوبية التى عُثر عليها أثناء حفريات الحملة العالمية لمنظمة اليونسكو لإنقاذ آثار النوبة من عام 1960 إلى 1980، والثانى المتحف القومى للحضارة المصرية فى القاهرة، وكان مقره الأول فى دار الأوبرا بالجزيرة، قبل أن يجرى تخصيص الموقع الجديد فى الفسطاط، لصغر مساحة الجزيرة وعدم ملاءمتها لإنشاء المتحف الجديد.
السور الخارجى لا يحجب رؤية ساحة المتحف الفسيحة ذات اللون الأبيض، فالرخام الفاتح يغطى أركانها ويزيدها إبهاراً مع الأشجار الرشيقة وأعمدة الإنارة، وتزين الساحة المتسعة قوائم زجاجية هرمية الشكل تستخدم فى إضاءة المكان، وعرض بعض التماثيل الصغيرة.
يتكون المتحف من مبنيين رئيسيين بالإضافة إلى جراج للسيارات وآخر للأوتوبيسات. وتبلغ المساحة الإجمالية للمشروع حالياً 33 فداناً، وستصبح 70 فداناً عند انتهاء البناء. والمبنى الأول هو مبنى الاستقبال، ويتكون من ثلاثة أدوار، يضم الأرضى المركز التجارى، وفيه 42 محلاً، ودار عرض سينمائى، ثم الدور الأول العلوى، ويحتوى على قاعتى محاضرات ومؤتمرات، وفصول تعليمية، وقاعة لاستقبال الأطفال، ومطعم، وكافيتريا، والدور الثانى العلوى يحتوى على المسرح، والاستعلامات، وتذاكر دخول المتحف، فضلاً عن جناح لكبار الزوار.
ويضم المبنى الثانى صالات العرض المتنوعة الدائمة منها والمؤقتة، بجانب معامل الصيانة والترميم بالمتحف والورش الخدمية والمخازن الأثرية. قال يسرى أحمد، رئيس قسم ترميم وصيانة المخطوطات، لـ«الوطن»: «متحف الحضارة المصرية سيهيئ الفرصة أمام الزائر سواء كان مصرياً أو أجنبياً أن يشاهد ويتابع قصة الحضارة المصرية كاملة بداية من عصور ما قبل الأسرات ثم العصر الفرعونى فاليونانى والرومانى فالقبطى والبيزنطى فالإسلامى ثم العصر الحديث فى مكان واحد، لأنه صُمم على أحدث أساليب العرض المتحفى التى تؤكد الدور الأساسى لمتحف الحضارة، وهو عرض إنجازات الإنسان المصرى فى مختلف مجالات الحياة ما بين معارف وعلوم وإدارة ومهن وفنون ونظم وتقنيات ومعتقدات وعادات وكل ما يلمس النشاط الإنسانى».
أضاف «يسرى»: «لاحظت انبهار الخبراء الأجانب فى منظمة اليونسكو بموقع المتحف وإنشاءاته، لذلك تعجبت من تصريحات وزير الآثار الأخيرة عن التوسع فى عرض المقتنيات بمخازن المتحف الإسلامى بعد الانتهاء من ترميمه، وهو ما سيعرضها للخطر حال استهداف مديرية أمن القاهرة من جديد، وسبق أن طالبنا الوزارة بنقل جزء من الآثار المخزنة لعرضها فى متحف الحضارة بدلاً من تخزينها، لكنها قالت إنها قطع أصلية مع أننا سنعرضها داخل متحف قومى جديد فى مصر، فضلاً عن خطورة موقع متحف الفن الإسلامى وعدم وجود حرم له يسمح بتأمينه والحفاظ على آثاره الثمينة عكس متحف الحضارة».[SecondImage]
وأشار إلى أن منظمة اليونسكو تقدم لمصر دعماً فنياً فى جوانب مختلفة، من خلال فريقها الضخم من المستشارين والفنيين متعددى التخصصات، بالتعاون مع الخبراء المصريين، متابعاً: «سبب تأخر تنفيذ المشروع هو عدم صرف مستحقات الشركات المنفذة، الأمر الذى أدى لتوقف أعمال البناء فى المشروع، بالإضافة إلى طلب شركة مياه القاهرة مبلغ 9 ملايين جنيه لتوصيل المياه العكرة إلى حدائق المتحف، وهو مبلغ كبير من الممكن أن يصدر رئيس الوزراء تكليفاً إلى الشركة لبدء التوصيل وتخفيض المبلغ باعتباره مشروعاً قومياً».
يستطرد «يسرى»: «محافظة القاهرة خصصت أرضاً لجمع الزبالة تقع بين دار الوثائق الجديدة ومجمع الأديان، فيما تنبعث من مقلب القمامة روائح كريهة وأدخنة تخنق الأنفاس وتنشط عند سرعة الرياح، ولا شك أن مقلب القمامة يضر ببيئة المكان وبالآثار الموجودة فيه، ورغم تخصيص شاطئ بحيرة عين الصيرة الغربى ليكون امتداداً طبيعياً للمتحف فإن إجراءات ضمه لم تنته بعد، وهو ما شجع بعض الأهالى على إنشاء عشش على شاطئ البحيرة بعد حالة الانفلات الأمنى التى ضربت البلاد عقب ثورة يناير، وهذه البحيرة الطبيعية صاحبة المياه الكبريتية ستعظم دور المتحف كمؤسسة ثقافية وسياحية وترفيهية كبرى». من جانبه، قال محمد صالح، رئيس قسم ترميم وصيانة النسيج بالمتحف، إن «وزارة الثقافة والجهات التابعة لها لم توافق أيضاً على نقل المقتنيات الفنية بمتحف الجزيرة فى دار الأوبرا إلى المتحف القومى للحضارة، ما يعوق استكمال سيناريو العرض المتحفى، عكس ما تعهدت به الوزارة فى عهد فاروق حسنى، الوزير الأسبق. كما أن وزارة الآثار تتحمل مسئولية توقف المشروع، وعلى رئاسة الوزراء إلزام الوزارتين بتسليم المقتنيات التى جرى اختيارها من متحف الجزيرة، وهى عبارة عن لوحات أسرة محمد على».[SecondQuote]
قال مصطفى كمال، المشرف على توثيق آثار العصر القبطى بالمتحف، إن «توقف المشروع جاء بسبب عدم الانتهاء من توريد باقى الأجهزة والمعدات الخاصة بالمعامل والأنظمة الأمنية، وتوقف أعمال التشطيبات النهائية، وعدم طرح أعمال التنسيق العام للموقع، فضلاً عن عدم توفير التمويل المالى اللازم لتنفيذ المرحلة الثالثة للمشروع، وهى مرحلة العرض المتحفى».
وطالب «كمال» صندوق إنقاذ آثار النوبة بسرعة تحصيل المبالغ الخاصة بتمويل مشروعات الآثار لدى وزارة الخارجية، بعد أن تراكمت المبالغ المستحقة للصندوق لدى «الخارجية»، خصوصاًًً أنها ستسهم فى سد العجز المالى الحالى للصندوق واستكمال المشروع.
من جانبه، أكد مدير مالى وإدارى بالمتحف، رفض ذكر اسمه، أن عدد الموظفين فيه يبلغ 300 أثرى وعامل، بينما المتحف يمكن أن يعمل بـ10% فقط منهم، إلا أنه جرى التعاقد مع 180 آخرين دون الحاجة إليهم قبل تشغيل المتحف، وهناك دعاوى قضائية ضد قرار التعيين، كما تم تثبيت عدد منهم لحصولهم على درجة الماجستير والدكتوراه فى تخصصاتهم، مضيفاً: «عايزين نعرف ليه عينوا كل الناس دى، إدارة صندوق آثار النوبة التابع لها المتحف فاشلة وتتفنن فى تعطيل مشروع متحف الحضارة، الذى كان مقرراً افتتاحه منذ 3 سنوات تقريباً».
وأضاف المدير المالى والإدارى: «بعض الموظفين يهددوننا لمنعنا من اتخاذ إجراءات حاسمة ضدهم فى ظل تغيبهم عن العمل، الوزير غير قادر على اتخاذ قرار حاسم ضدهم، وأصبحوا يتطاولون علينا بالشتائم بشكل غريب، ما جعلنا نقدم مذكرات ضدهم، خصوصاً المنقطعين عن الحضور، إلا أن إدارة الصندوق تعطلها ولا ترفعها للوزير، وهناك 30 موظفاً أخذوا 40 يوماً إجازة رسمية فى سنة واحدة، رغم أن القانون لا يعطيهم إلا 15 يوماً فقط، ونخصم منهم الحوافز على حسب الغياب، والإدارة متراخية جداً معهم، حتى إن عاملاً باليومية لم يأت لعمله منذ 6 شهور، وعندما رفعنا ضده مذكرة لفصله لم توافق عليها إدارة صندوق آثار النوبة».
تابع المدير المالى: «حملة الماجستير والدكتوراه الذين تم تعيينهم منذ 5 شهور بعد صدور قانون بذلك، لم يحصلوا على جنيه واحد منذ تعيينهم، بسبب عدم إنهاء أوراقهم فى صندوق آثار النوبة، ولا نعرف كيف لهم أن يعيشوا ومن أين ينفقوا على أسرهم»، لافتاً إلى أن متوسط مرتبات العاملين فى المتحف نحو ألف جنيه بالحوافز حسب الأقدمية، ولو أن المتحف تم تشغيله ستكون هناك حاجة لموظفين آخرين، ومن الممكن تشغيله جزئياً بحيث يعمل المسرح والسينما والبازارات خلال شهر واحد دون تكلفة مرتفعة، والأمر يحتاج فقط إلى اهتمام من محمد فوزى مدير المتحف، الذى سيخرج إلى المعاش العام المقبل، وأيضاً اهتمام وزير الآثار الذى لا يزور المتحف إلا كل 6 شهور، رغم أنه يمثل صرحاً كبيراً يمكن أن يُدر دخلا كبيراً للدولة حال افتتاحه.[ThirdImage]
وأشار المسئول المالى إلى أن الانتهاء الكامل من المشروع يحتاج إلى 700 مليون دولار، لذلك طلب وزير الثقافة دعم «اليونسكو»، إلا أن المنظمة تأخرت جداً فى الرد، والأمر لا يتوقف فقط على الدعم المالى، لأن المشروع يحتاج إلى دعم فنى وإدارى؛ «للأسف كل من تولى إدارة المتحف لم تكن لديه القدرة والجرأة على اتخاذ قرارات مفيدة للصالح العام. هو بالنسبة لقيادات وزارة الآثار منصب يجلسون فيه لقضاء فترة نقاهة فقط، دون أن يكون لديهم أى طموح لتطوير المتحف».