د. محمد عبدالحليم: فقدت زوجتى وأبنائى الأربعة فى «السلام 98» وقاتلت 8 سنوات فكانت النتيجة «انقضاء الدعوى»
«أعيدوا إلىّ فاطمة.. خذوا كل ما عندى وأعيدوا إلى فاطمة.. أعيدوا إلى بسمتها.. أعيدوا إلى ضحكتها.
أعيدوا إلى دمعتها.. إذا تبسمت فهى الشمس إذا أشرقت. أعلم أنها فى الجنان عند الرحمن، وأنها ربما تأخذ بيدى لهذا المكان.. لكن من أخذ فاطمة؟
أهو القضاء والقدر؟.. أم الإهمال والفساد والطغيان؟ كلنا على الطريق سائرون ما دام المفسدون موجودين.. يمرحون ويعبثون بأرض هذا البلد المكنون!
أفيقوا أيها النائمون.. قبل أن تأتى إليكم يد المنون وأعيدوا إلى فاطمة». هذا ما سطره الدكتور محمد عبدالحليم الطبيب البشرى.. الذى فقد 4 من أبنائه وزوجته.. كتب رسالة إلى «الدولة والنظام الحاكم والقضاة والقضاء».. الدكتور محمد يختلف قليلا عن باقى أسر ضحايا العبارة السلام 98.. محمد فقد أسرته كاملة.. آلاء ونورهان وعبدالرحمن وفاطمة وزوجته الطيبة المطيعة الهادئة.. فقدهم وفقد حتى جثامينهم.. لم تعثر عليهم قوات وفرق الإنقاذ ولا الطائرات التى حلقت بعد الحادث ولا السفن التى بحثت. [FirstQuote]
اليوم 3 فبراير 2014.. تمر الذكرى الثامنة لحادث هو الأكبر فى تاريخ مصر.. هو الأكثر قسوة وألما.. لن ينساه أسر الضحايا حتى يلقوهم أمام رب كريم.
عرفت الدكتور محمد أثناء تغطيتى لحادث العبارة فى 3 فبراير 2006.. التقيته كثيرا.. أتذكر أول مرة.. كان صابرا ولا يزال.. كان حزينا ولا يزال.. كان قليل الكلام ولا يزال.. كان مقاتلا للبحث عن حق أسرته ولا يزال.. كان يحتفظ بصور بناته الثلاث وابنه وزوجته ولا يزال.. «يفردها» أمامى.. ويقول لى هذه آلاء.. انظر كيف كانت تكتب رسائل إلىّ بالإنجليزية.. انظر هذه فاطمة.. هى الأغلى.. هذا عبدالرحمن.. وهذه نورهان.. كانوا فى زيارة إلىّ بالسعودية.. حيث كنت أعمل.. وودعتهم فى الساعات الأخيرة من مساء الخميس 2 فبراير.. وفى الساعات الأولى من صباح الجمعة.. كان الخبر.. كان الاختبار.. كان الموت يطل برأسة قويا.. وبحثت عنهم بين الناجين.. وبين المصابين وبين الجثامين.. ولم أجدهم.. راحوا مع قليلين ابتلعتهم مياه البحر.. واستقبلهم ليكون «بديلا» لقبرهم.. أصبر نفسى وأزور مقابر الصدقة فى محافظة البحر الأحمر.. هناك وضعوا بعض الجثامين التى لم تفلح معها تحاليل الـ«دى إن إيه».. أزور وألقى السلام.. وأقرأ الفاتحة.. أتشكك وأسال نفسى: هل هم هنا.. أم ممن ابتلعهم البحر ورفض أن يخرجهم.. أقولها.. وأرد على نفسى: «هم عند الله.. بين يديه». [SecondImage]
الدكتور محمد عبدالحليم.. وطوال السنوات الثمانى والقضية هى همه الأكبر.. رفض أن يحصل على تعويض 300 ألف أو يزيد عن كل ضحية.. قال: «القانون هو الحل وسأرتضى بحكم المحكمة».. صاحب العبارة هارب.. هربه نظام مبارك فى 2006 وقبل أن يصدر قرارا بمنعه من السفر.. قالوا له: «سافر يا ممدوح.. وبعدها صدر قرار المنع».. نصبوا جلسة فى مجلس شورى «صفوت الشريف» وقتها لرفع الحصانة عن ممدوح.. وكان الرجل غادر إلى لندن.. حيث لا قانون مصريا يطبق.. ولا إنتربول يعيد متهما.. هرب الرجل ولا يزال ومعه ابنه.. وفى 12 يناير الجارى.. فتحت المحكمة أبوابها لاثنين من المتهمين.. وفتحت أملا جديدا لبعض الأسر التى رفضت التعويض.. أملا بالعقاب.. وكان الحكم صادما.. انقضاء الدعوى.. كانت الداخلية «متساهلة» وتركت المتهمين هاربين طوال 7 سنوات.. وعندما قدمتهم للمحاكمة.. قال القانون: «الدعوى انقضت.. ومفيش أحكام».
الدكتور محمد عبدالحليم كافأته الدولة بعد عودته من السعودية وغرق أسرته بالكامل ليعمل طبيبا فى قنا.. يعمل فى قنا وهو ابن محافظة الغربية.. ترك لهم العمل بعد شهور.. وخرج منذ عام إلى المعاش.. معاشه 800 جنيه بعد 36 عاما من العمل فى وزارة الصحة.. يكفيه.. ويكفى والديه المسنين.. تجاوزا الـ85 عاما.. يرقدان مريضين.. وبجوارهما يجلس الرجل وعمره يقترب من الـ61 عاما.. وهو يقول لهم: «معكم حتى النهاية.. معكم دون تراجع.. حتى ألتقى فاطمة ونورهان وآلاء وعبدالرحمن وزوجتى الحبيبة».
الدكتور محمد يوجه رسالة إلى الرئيس عدلى منصور ويصفه بـ«قاضى القضاة».. يقول فيها: «إنكم أيها القضاة يد الله تمشى على الأرض وأن العدل أساس الملك كما أرى خلفكم.. إننى لم أتصالح مع الجناة كما ادعى محاميهم وأنا لى دم لـ5 ضحايا يرحمهم الله. .. أنا شخصيا لا أمانع من تطبيق القانون ولو كان ظالما لأن البديل هو قانون الغابة، ولكن أناشد هيئة المحكمة برفع هذا القانون إلى المحكمة الدستورية لإبداء رأيها لأنه قانون تشوبه عدم الدستورية، حيث إن انقضاء حكم حبس بثلاث سنوات بسبب نجاح المجرم فى الهروب لثلاث سنوات هو مكافأة للمجرمين وتشجيع لهم على عدم تنفيذ الأحكام والهروب.. لنا فى قضية وادى النطرون عبرة ومثل يحتذى حيث تطرق قاضيها إلى أمور هى أبعد صلة بقضيته ونحن نطلب من المحكمة الموقرة أن تتطرق إلى أمور هى فى صميم القضية. [SecondQuote]
طارق شرف الدين.. واحد من الضحايا وهو رفيق رحلة العذاب مع الدكتور محمد عبدالحليم.. وفقد أيضاً زوجته وأبناءه الثلاثة.. لن ينسى تفاصيل هذه المأساة حتى كتابة هذه السطور.. يقول طارق: «الأربعاء 1 فبراير 2006.. المكان مدينة خميس مشيط المنطقة الجنوبية السعودية.. استيقظنا حوالى الساعة السادسة صباحا أنا وأسرتى. ثم أخذت بناتى لينا وماريهان للذهاب لآخر اختبار من اختبارات نصف العام الدراسى. الذى سينتهى فى الساعة التاسعة والنصف صباحا. وكانت مدرسة لينا تبعد عن مدرسة ماريهان مسافة بعيدة.
وكانت توصياتى لهما أثناء الطريق أن يهتما بالاختبار وأن يدققا فى الإجابات. وعند نهاية الاختبار أن يسرعا بالخروج من المدرسة حتى نستطيع اللحاق بالأتوبيس الذى سينقلهما إلى الميناء ثم إلى مصر. والذى سيتحرك فى الساعة العاشرة صباحا. وعدت إلى المنزل وبدأت مع زوجتى ومحمد فى الترتيبات الأخيرة قبل السفر وارتداء ملابسهم وخلافه. وإسلام الصغير يلعب ويلهو حولنا. وما أن جاءت الساعة التاسعة صباحا ولضيق الوقت استدعيت زميلى هشام بسيارته ليذهب مع محمد ابنى لأخذ ماريهان من المدرسة. واللحاق بنا على محطة الأوتوبيس. وذهبت أنا وزوجتى وإسلام لإحضار لينا من المدرسة. ثم إلى محطة الأوتوبيس.[ThirdImage]
وبالفعل وصلنا قبل الساعة العاشرة أى قبل قيام الأوتوبيس. وبدأ النداء على الركاب لركوب الأتوبيس وتبادلوا معى السلام والتحيات. وعانقونى بأحضان دافئة. وبالقبلات ودعونى. ورأيت فى عيونهم كل الحب والإخلاص وكل الوفاء. وركبوا الأوتوبيس. وظل الأوتوبيس واقفا. فركبت معهم حتى جاء السائق وأعلن التحرك. وعانقتهم وقبلتهم مرة أخرى. ونزلت من الأوتوبيس وتركت به زوجتى. ومحمد طالب كلية التجارة. ولينا بالثانوية. وماريهان بالصف الخامس الابتدائى. وإسلام بالصف الأول الابتدائى. ووقفت أمام نافذة الأوتوبيس لأودعهم. ومن خلف زجاج النافذة. الخمسة وجوه تنظر لى. يشكلون لى أجمل لوحة شاهدتها عيونى.. انطلق بهم الأوتوبيس متجها إلى ميناء ضبا. ليلحقوا بعبارة الموت (العبارة السلام 98).. وكانت النهاية.. أنا مقصر. نظام الدولة السابق مقصر. نظام الدولة الحالى مقصر لا تسامحوهم ولا تسامحونى».