خبير تمويل سويدى: مصر تمتلك كنزاً قيمته «500 مليار دولار» ولابد من إنشاء صندوق ثروة وطنى لإدارة الأصول العامة
«داتر» خلال حواره مع «الوطن»
قال داج داتر، خبير التمويل السويدى، إن «الطريقة الوحيدة لإنقاذ اقتصاد أى دولة سريعاً تتركز فى كيفية الاستفادة من أصولها العامة وتحويلها لمؤسسات رابحة»، موضحاً أن تقديرات صندوق النقد الدولى تؤكد أن قيمة الأصول العامة فى كل بلد تبلغ فى المتوسط ضعفى الناتج المحلى الإجمالى ما يعنى أنها تساوى فى مصر نحو 500 مليار دولار، منوهاً بأن معظم البلدان تهملها، لا سيما أنها تعانى سوء الإدارة، وأن العائد منها فى الغالب صفر.
"داتر" لـ"الوطن": "صناديق الثروة الوطنية" كفيلة بتوفير مستوى معيشة كريم.. وتمثل "الطريق الثالث" بين "الخصخصة" وملكية الدولة
واقترح «داتر»، فى حوار لـ«الوطن»، أثناء زيارته للقاهرة مؤخراً، أن تقوم الحكومات بجرد دقيق لأصولها من شركات ومرافق ومبانٍ وأراضٍ، ثم تُعهد لـ«صناديق ثروة وطنية» محترفة ومستقلة لإدارتها دون تدخل فى عملها، الأمر الذى يحقق النجاح فى النهاية، كما حدث فى العديد من دول العالم وعلى رأسها سنغافورة.. إلى نص الحوار:
لديك تصور لإنعاش اقتصادات دول العالم، خصوصاً الفقيرة منها بإعادة استغلال الأصول العامة.. ما جوهر فكرتك؟
- الفكرة ببساطة أن كل دول العالم لديها أصول عامة، أى مرافق، مثل محطات الكهرباء والمياه وشركات عامة وعقارات وأراضٍ تعادل ضعف الناتج المحلى الإجمالى، وفقاً لتقديرات صندوق النقد الدولى، ما يعنى أن إجمالى قيمة هذه الأصول تقدر بنحو 150 تريليون دولار (إجمالى الناتج العالمى 75 تريليون دولار)، وفى بلد مثل مصر ستكون قيمة هذه الأصول على الأقل ضعفى الناتج المحلى الإجمالى الذى بلغ فى 2017 نحو 235.37 مليار دولار، ما يعنى أن قيمة هذه الأصول يمكن أن تصل لـنحو 500 مليار دولار، أى أنها بلد غنى، لكن المشكلة أن هذه الأصول غير مستغلة والعائد منها، نتيجة سوء الإدارة، غالباً ما يكون «زيرو»، وربما تكون هناك خسائر، والسبب فى ذلك هو أولاً: التدخل الحكومى فى إدارتها لاعتبارات سياسية، وثانياً: الملكية غير المجمعة لهذه الأصول مع عدم وجود شفافية أو حوكمة رشيدة، وثالثاً: عدم إدارة هذه الأصول بالأساليب المحاسبية الحديثة، ومصر شأنها فى ذلك شأن معظم دول العالم. صحيح أن هناك بعض الشركات العامة الناجحة مثل شركة فولكس واجن فى ألمانيا، لكن عوائد معظم الشركات العامة فى كل دول العالم أقل من نظيراتها المملوكة للقطاع الخاص.
ماذا تقصد بالأصول؟
- ممتلكات الشعب التى تشرف على إدارتها الحكومة، وهى نوعان، الأول: أصول تشغيلية مثل المواصلات العامة والطرق والمطارات ومحطات المياه والكهرباء والبنوك وشركات التأمين، وأصول عقارية مثل المبانى غير المستغلة أو المؤجرة والأراضى المطورة وغير المطورة، وكل مليم يأتى كعائد من إدارة هذه الأصول يعنى خفضاً بنفس القيمة من حصيلة الضرائب المطلوبة، أقصد أنها ستغنى الحكومة عن زيادة الضرائب المرهقة للناس، وتخيل أن تكون فى بلد تستطيع فيه الحكومة الإنفاق بفاعلية على الخدمات العامة دون حاجة لجمع ضرائب.
الطريقة الأفضل لإنقاذ اقتصاد أى دولة هى الاستفادة من أصولها العامة وتحويلها إلى "مؤسسات رابحة"
وماذا تقترح للاستفادة منها؟
- الخطوة الأولى أن تعرف الحكومة حجم هذه الأصول وقيمتها، بعد عملية جرد دقيقة، ثم تسأل بعد ذلك: كم أحصل على عائد منها؟ وهذا سؤال بديهى لكن لا أحد يسأله. كلنا نعرف تكلفة ديوننا، ولكن لا أحد يعرف حجم العائد الصحيح من الأصول العامة، ثم يتم بعد ذلك إنشاء صندوق «ثروة وطنى» يضم شركات قابضة تدير هذه الأصول بشكل احترافى بهدف تعظيم العائد منها على أن تكون إدارة الصندوق مملوكة للحكومة، لكنها مستقلة تماماً عنها، ويجب أن تمتنع الحكومة عن التدخل فى المدى القصير فى طريقة إدارة الصندوق مع تمسّكها بتحديد أهداف واضحة من الإدارة، منها تحقيق أرباح، وهذه الأرباح تنفق على الرعاية الصحية والتعليم والبنية الأساسية، وما إلى ذلك.
إذاً، جوهر فكرتك هو طريق ثالث بين الملكية العامة والخصخصة؟
- نعم، الكثير من الاقتصاديين يعتبرون أن القصور فى إدارة الأصول العامة مبرر وسبب وجيه للخصخصة، لكن الخصخصة لها مخاطرها، مثل رأسمالية المحاسيب والفساد والتنظيم المختل، ولحسن الحظ لسنا مضطرين دائماً للخصخصة، لأن هناك طريقاً ثالثاً، وهو أن تسند الحكومات مهمة إدارة أصولها إلى صناديق الثروة الوطنية التى تقوم بدورها بتأسيس شركات قابضة تدير هذه الأصول بشكل احترافى. وتقديرى أن هذا أفضل من الخصخصة، إذ لماذا تبيع الحكومات الممتلكات العامة للقطاع الخاص، فى حين أنها تستطيع استئجار إدارة محترفة وتحصل على العائد لنفسها بما يعود بالفائدة على باقى أفراد الشعب؟ الأصول العامة هذه ممتلكات لشعب، لكن من يستفيد منها عدد محدود من المواطنين والسبب فى ذلك لأنه لا توجد شفافية فلا أحد يعلم ما نملك، وبالتالى لا نعلم كم تساوى.
"الأصول العامة" ملك للشعب لكن يستفيد منها عدد محدود من المواطنين.. والصندوق السيادى خطوة فى الاتجاه الصحيح
وأين طبّقت هذه الفكرة بنجاح؟
- طبقت فى العديد من دول العالم وأنجحها كان فى سنغافورة، ولم تكن سنغافورة أول بلد يطبق الفكرة، ولكنه كان أول بلد يطبق الفكرة كاملة، ومنذ السنوات الأولى للاستقلال، واليوم يتمتع صندوق الثروة الوطنية السنغافورى «تيماسيك» «Temasek» الذى تم تأسيسه فى عام 1974، بمتوسط عائد سنوى قدره 17%، وهو رقم قياسى مثير للإعجاب حتى فى القطاع الخاص.
لكنّ سنغافورة بلد غنى ومتقدم وعدد سكانه لا يتجاوز 7 ملايين نسمة؟
- هذا ما أسمعه فى كل بلد أذهب إليه، وهو كلام غير صحيح، أولاً: لأن سنغافورة لم تكن حين حصلت على استقلالها بلداً متقدماً على الإطلاق، بل كانت بلداً صغيراً فقيراً. ومن الطريف أن نعرف أن كلاً من سنغافورة وجامايكا استقلتا عن الاحتلال البريطانى فى نفس الوقت تقريباً، وكان لهما نفس عدد السكان، ونفس قيمة الناتج المحلى الإجمالى ونفس متوسط عمر الفرد، بل إن سنغافورة كانت فى وضع أسوأ كثيراً، فجامايكا كانت جزيرة مزدهرة ذات بنية تحتية جيدة، أما سنغافورة فلم تكن تملك طعامها وشرابها ولا مصادر كهرباء وتعتمد بشكل شبه كامل على ماليزيا، وكانت فقط مجرد موقع استراتيجى مهم استخدمه الإنجليز كثكنات عسكرية، والآن البون شاسع بين البلدين، وليس صحيحاً أن عدد السكان الأصغر يجعل إدارة البلد أسهل، بل الصحيح أن البلد صغير العدد يشعر بأنه مهدد، فيعمل أهله بشكل أكثر جدية من البلدان كثيرة العدد.
مصر بلد غنى لكن مشكلته فى عدم استغلال الأصول لدرجة أن عائدها "زيرو" بسبب سوء الإدارة.. وفصل إدارة الأصول العامة عن الحكومة يساهم فى الأزدهار
لكن ما علاقة ازدهار سنغافورة بفكرتك؟
- أرى أن أحد الأسباب التى ساهمت فى ازدهار هذا البلد هو قرار ساستها المبكر بفصل إدارة الأصول العامة عن الحكومة، فقد استخدمت شركتا «تيماسيك» و«جى آى سى»، وهما شركتان قابضتان أسستهما الحكومة لإدارة الأصول العامة بشكل محترف، لتمويل تنمية سنغافورة الاقتصادية، وهل تتخيل أن 80% من المواطنين يسكنون فى بيوت مملوكة للدولة، ويديرها صندوق الإسكان «إتش دى بى» على النحو الذى أوضحته لك.
ما الفرق بين صناديق الثروة الوطنية و«السيادية» التى نعرفها؟
- هذان نوعان مختلفان تماماً من صناديق الاستثمار، فالصناديق السيادية sovereign funds المعروفة فى دول الخليج الغنية بالنفط، أو فى النرويج وغيرها وظيفتها استثمار فوائض صادرات هذه الدول، وتركز على إدارة السيولة المتولدة عن صادرات النفط ويكفى فى إدارتها أن تجلس خلف شاشة كومبيوتر لتطارد فرص الاستثمار الجيدة فى بورصات العالم سواء أسهم أو سندات ويمكنك أن تخرج من سوق ما فى أى لحظة لتستفيد من فرص أفضل فى سوق أخرى، وهكذا، أما صناديق الثروة الوطنية national wealth fund فتهدف لإدارة الأصول العامة من أراضٍ وعقارات وشركات مملوكة للدولة، أما صناديق الثروة المحلية فهى تدير أصولاً عامة لا يمكن لمدير الصندوق أن يبيعها أو يتخلى عنها، فلا يستطيع مثلاً أن يبيع قناة السويس أو شركة الحديد والصلب، ليشترى أسهماً أكثر جاذبية فى سوق أخرى، وعلى مدير الصندوق أن يتعامل مع الخلل فى أى أصل من هذه الأصول ويصلحه لأن خيار البيع ليس مطروحاً، وهو ما يتطلب تدخلاً يومياً من الإدارة فى تفاصيل عمل هذه الشركات والأصول. باختصار يمكن أن تقول إن الصناديق السيادية استثمار غير مباشر فى الغالب فيما أن الصناديق القومية استثمار مباشر ويفضل فى الصناديق القومية أن تؤسس شركة قابضة منفصلة لإدارة الممتلكات العقارية وأخرى لإدارة الشركات والمرافق العامة.
تحطمت سيارتى 3 مرات ووصلتنى تهديدات بالقتل مرتين للتراجع عن أفكارى لكنى رفضت.. والتجربة نجحت فى النهاية
لكن ماذا عن مصير العمالة فى المؤسسات العامة بعد أن تتولى إدارتها كوادر محترفة ساعية للربح؟ أقصد أنه يمكن تسريح هذه العمالة؟
- هذا صحيح وكثيراً ما يخشى السياسيون من أن تقوم الإدارة الجديدة بتسريح الموظفين ما يعد خطوة انتحارية لبعضهم، وهناك حلول منها أن تعد الحكومة خططاً لإعادة تأهيل هذه العمالة لإلحاقهم بسوق العمل مرة أخرى، لكن علينا أن نتذكر أنه حتى لو تضرر البعض فإن غالبية المجتمع ستستفيد، ففى مصر مثلاً هناك نحو نصف مليون شخص يستفيدون من العمل فى الشركات العامة، فى مقابل 10 ملايين يدفعون ضرائب تذهب للإنفاق على خسائر هذه الشركات، وعلينا أن نتذكر أيضاً أن هذه الطريقة ستوفر بديلاً للاقتراض وزيادة الدين العام لسد عجز الموازنة واللجوء للخصخصة والقبول ببرامج التقشف لصندوق النقد الدولى، وما أريد أن أقوله إن الحكومات الوطنية لديها منجم من ذهب غير مستغل يمكن أن يولّد عائداً كبيراً لتمويل موازنات الحكومة، أو خفـض الضرائب، أو دفـع تكاليف مشروعات البنيـة التحتيـة دون الحاجة للاقتراض.
إذا كانت المسألة على هذا النحو، فلماذا لم تتبنها كل حكومات العالم؟
- هناك سببان، أولهما: لا بد من وجود إرادة سياسية وعادة لا تتحقق إلا فى الأزمات، والساسة بصفة عامة لا يتحمسون لهذه الفكرة لأنهم يستفيدون من وجود «مال عام سايب» يمكّنهم من تقديم رشاوى لناخبيهم بتعيين من يهمهم فى الشركات العامة مثلاً، والثانى: فهمته متأخراً من أصدقائى المحاسبين ومؤرخى المحاسبة، وهو سبب يبدو غير قابل للتصديق، فكل حكومات العالم، باستثناء نيوزيلندا، لا تستخدم المحاسبة الحديثة، أى التى تم تطويرها منذ 800 عام، أى إن الحكومة لا تستخدم فى إدارتها لمعظم هذه الأصول «الميزانية» التى يستخدمها القطاع الخاص، ويبدو أن السبب رغبة السياسيين فى عدم التقيد بأرقام واضحة تشير إلى عجزهم عن تنفيذ كثير من وعودهم الانتخابية، وهذه قصة أخرى طويلة.
هل يمكن أن تعطينا مثالاً بسيطاً بعيداً عن التعقيدات والتفاصيل المحاسبية؟
- بعض الحكومات مثلاً ترفض تطوير بعض المرافق العامة مثل السكك الحديدية، لأن ذلك يتطلب منها الاقتراض، وهى ترفضه إلا فى حدود معينة لأنها تراقب دائماً نسبة الدين العام إلى الناتج المحلى الإجمالى، وهذا كلام لا معنى له فى حقيقة الأمر، لأن الناتج المحلى الإجمالى رقم إحصائى وليس تمويلياً، وتخيل مثلاً أن تذهب للحصول على قرض من البنك فيطلب منك أن تحدد له نسب دينك لعدد ساعات عملك فى العام! هذا لا يحدث ولكن هذا ما تفعله الحكومات، أما لو طبقنا المحاسبة الحديثة، فسوف نفكر بطريقة مختلفة، أى إننا نرحب باقتراض 2 مليار دولار مثلاً لأننا سنحصل على عائد 10 مليارات، أى إن الصافى 8 مليارات إضافية.
وكيف كانت تجربتك فى بلدك؟
- حققنا نجاحاً جيداً، والمسألة بدأت حين تعرضت السويد لأزمة مالية واقتصادية خانقة فى التسعينات وواجهت ضغوطاً كبيرة من صندوق النقد الذى قال للحكومة إن المخرج الوحيد هو خصخصة كل شىء، لكن رئيس الحكومة وقتها كان اشتراكياً ويرفض الخصخصة، ففضل الاستعانة بشخص من القطاع الخاص لإدارة الأصول العامة، وكأنها قطاع خاص، وهذا الشخص هو أنا، ولم تكن أفكارى مقبولة، لأن هناك من تضرر منها، ولذلك فقد تحطمت سيارتى 3 مرات، ووصلتنى تهديدات بالقتل مرتين، وهاجموا بيتى، لكن التجربة نجحت فى النهاية، فالطريقة الأفضل التى يمكن بها إنقاذ اقتصاد بلد ما هى الاستفادة من الأصول وتحويلها من مؤسسات ومنشآت خاسرة لمؤسسات رابحة.
ماذا عن الصندوق السيادى المصرى؟
- هم يسيرون فى نفس الاتجاه الذى أتحدث عنه، لكن الشيطان يكمن فى التفاصيل، أقصد فى طريقة التطبيق، فإذا لم يتم تنفيذ الفكرة بالشكل المناسب فلا قيمة لها، والشروط الأساسية لنجاحها مرة أخرى، هى الشفافية الاستقلالية وتحديد الهدف الصحيح، يجب ألا يكون هناك تدخل سياسى فى المدى القصير، أى طريقة الإدارة اليومية، بمعنى ألا تفرض الحكومة سياسات ولا أشخاصاً ولا تضع ضغوطاً على إدارة الصندوق لتعيين هذا أو ذلك، ولكن تحدد أهدافاً بعيدة المدى وتحاسبها عليها.