اللهم إني صائم.. جيران "قصر عابدين" يلتمسون البهجة في حديقة الميدان
حى عابدين.. رمضان بطعم أيام زمان
«على بالي ولا أنت داري» جملة تصدح بها طالبتين بالمرحلة الثانوية في الحديقة المواجهة لقصر عابدين، لتقاطعهما أخرى بلهجة تجمع بين الجد والمزاح: «بقولكم إيه.. اللهم إني صائم»، في مشهد لافت ربما يشير إلى أن الحياة كانت تسير على طبيعتها إلى حد كبير بالنسبة للبعض على الأقل، رغم أنه كان نهار إحدى أيام شهر «الصيام».
كان المنظر المنسق للحديقة والقصر الفخم الذي كان أول مقر حديث للحكم في مصر بعد قلعة صلاح الدين، يبعث على البهجة والسكينة بين الجالسين بالحديقة، الذين توزعوا ما بين طلبة يلهون فى انتظار موعد درس خصوصى بأحد «السناتر» المجاورة أو موظفين وسكان بالحي يلتقطون أنفاسهم لدقائق قبل أن يكملوا طريقهم، فيما كان اثنان من الجناينية يقومون برعاية وري الحديقة التى تحولت إلى "متنزه للحي".
علاقة الجيرة الطيبة بين أهالي الحي و«القصر»، التي وصلت فيما مضى إلى حد تبادل الهدايا بين الخديو إسماعيل، مؤسس القصر، والأهالي في المناسبات، وعلى رأسها شهر رمضان، حسبما يروي عبدالمنعم شميس في كتابه «حرافيش القاهرة»، بدت آثارها مستمرة في التسامح الذى يتعامل به رجال الأمن المكلفون بتأمين القصر مع الصبية الذين كانوا يلهون أمام مدخله، والأهالي الذين يبحثون عن قسط من الراحة في حديقة الميدان.
هكذا ظل قصر عابدين، كما كان في الماضي، محتفظاً برونقه كمركز للحى الذى حمل نفس اسمه وارتبط به إلى حد كبير، وضم فيما مضى عدداً كبيراً من العمال والصنايعية الذين كانوا يعملون بالقصر ويسكنون بالحى جنباً إلى جنب مع الباشوات وكبار المسؤولين ورجال السياسة الذين فضّلوا أن يستقروا بجوار مركز الحكم وقتها.
كل الطرق والميادين الصغيرة والكبيرة المجاورة بدت كما لو أنها تؤدي إلى القصر، بما فيها ميدان الزعيم الوطني نصير العمال محمد فريد، الذى توسط تمثاله الميدان، فيما كانت مظاهر الشهر الكريم واضحة حوله، حيث كان طابور من المواطنين يقف أمام محل «بيومى الكنفانى» فى انتظار «الكنافة والقطايف» المميزة لموائد رمضان، وفى الجهة الأخرى كان عدد أقل من المواطنين يتوافدون على محل عطارة تصدرت واجهته أنواع الياميش والمكسرات.
على باب المسمط الشهير المطل على ميدان محمد فريد، الذي كان مغلقاً بسبب شهر الصيام، كان بائع فاكهة يجلس فى هدوء وثقة بجلبابه البلدى الأنيق وفى يده مسبحة، سعيداً بأن مبيعاته تزيد الآن مقارنة بغير ذلك من الأوقات، وغير بعيد عنه بالقرب من سلم مترو الأنفاق كانت سيدة مقبلة بـ«طشت» من التوت من شبين القناطر، فيما كان المارة يلتفون حولها لشراء فاكهتها المميزة.
غير بعيد عن ميدان عابدين، يقع أيضاً «ميدان باب اللوق»، الفلكى سابقاً، الذى كان فيما مضى يضم محطة القطار المؤدية لحلوان، حيث كان الخديو يستقل القطار من متوجهاً لقصره الآخر هناك.
فى «باب اللوق» أيضاً كان مقهى «الحرية» الشهير الذى كان يُعتبر أحد المقرات المعروفة للمثقفين والسياسيين والنشطاء، مغلقاً بالكامل، فيما بدت بقية أنحاء الميدان الذى كان يوماً ما عامراً بالمقاهى ومظاهر الحياة، جافة، بعد أن تحول واحد من أهم مقاهيه الأخرى، وهو قهوة «المنظر الجميل» إلى صيدلية، تزامناً مع تكاثر الأمراض على المصريين، وتوسطه جراجاً للسيارات كان فيما مضى حديقة.
لكن بخلاف الميادين المنمقة، الجاف منها والمليء بالحياة، تمثل الشوارع الداخلية الشعبية لحي عابدين عالماً أكثر ثراء بالتأكيد، ومن بينها شارع «البلاقسة» الذى يضم «مسرح الضمة» للفنون الشعبية، الذى كانت موسيقى البروفات تصدح من داخله استعداداً لليالى رمضان الفنية، وعلى بُعد خطوات منه كان يجلس «عم عادل» أمام مطبعته التى توقفت عن العمل الآن، بعد أن شهدت مع صاحبها أحداثاً مهمة من بينها قيام ثورة 23 يوليو التى أطاحت بحكم أسرة محمد على وبتمثال للملك فاروق كان قائماً بميدان عابدين، ووضعت مكانه شُعلة، تمت إزالتها لاحقاً أيضاً.
أهالى عابدين يمثلون طرازاً خاصاً وراقياً من «أولاد البلد»، كانوا يتسابقون لاستضافة «الوطن» فى جولتها بالشارع، ومن بينهم صاحب محل لتجارة «الخردة» مجاور للمطبعة، كان يخصص جزءاً بداخله لعرض مقتنيات بيوت عابدين القديمة النحاسية، من الأوانى والأباريق وحتى البواجير وغيرها من المنتجات، والتى كان صاحب المحل يعتز بها، مؤكداً أنها ليست للبيع، بينما كان يثمّن أشياء أخرى حديثة يعرضها أهالي الحي عليه بـ«الكيلو».