جلال عامر.. عاش يخفف على الشعب همومه ومات وهو يحملها أثقالا
يطل عليك دائمًا بالابتسامة، التي لا تفارق وجهه ولا كلماته، صاحب "التخاريف" التي تحققت وما زالت تتحقق على أرض الواقع، أسلوبه في التعبير تحول إلى مدرسة في الكتابة، لا يعرف سرها إلا قلمه، تسرح معه في عالمه الخرافي، فتضحك وتتعجب ثم تفكر، وبعدها تتحسر على حالك وحال مجتمعك، رفض أن يلقب بالكاتب الساخر، وقال أسبابه في ذلك وهو يضحك ويتحسر في نفس الوقت: "الكاتب الساخر أصبح مثل الدقيق الفاخر يباع في كل المحال، وأصبحت السخرية مهنة من لا مهنة له، زي واحد فتح دكان "الومنتال" كله يفتح دكان "الومنتال"، تفتح دكان كتابة ساخرة كله يفتح دكان كتابة ساخرة، وأنا أنأى بنفسي عن القصة دي، وأقول أنا كاتب على باب الله"، إنه إمبراطور الكتابة جلال عامر.
ولد جلال عامر بالإسكندرية، في عام ثورة يوليو 1952، وعاش انتصاراتها وتذوق مرارة انكسارتها، تخرج في الكلية الحربية، وشارك في 3 حروب، وكان أحد ضباط وأبطال حرب أكتوبر المجيدة، وقائدًا لسرية في الفرقة 18، التي كان يقودها اللواء فؤاد عزيز غالي، وشارك مع فرقته في تحرير مدينة القنطرة شرق من العدوان، وله مقولة ساخرة عن الحرب وما بعدها، قال فيها "الحرب يخطط لها الدهاة.. ويصنعها الشجعان.. ويرثها لا مؤاخذة"، وكان له فلسفته الخاصة عندما تحدث عن الاختلاف في الرأي عند المصريين بضحكته اللذيذة: "شاركت في 3 حروب ومتعورتش، ويم ما جيت اتعور كان في ندوة فكرية".
الدراسة في حياة "عامر"، لم تقتصر على العلوم العسكرية فقط، فقد درس القانون في كلية الحقوق، كما درس الفلسفة في كلية الآداب، كتب القصة القصيرة والشعر والمقال، وله مؤلفات ساخرة أشهرها "مصر على كف عفريت"، وصاحب اتجاه سياسي، فهو كان واحدًا من أعضاء اللجنة المركزية بحزب التجمع، وكان يحمل النقد اللذيذ في شكله لنظام "مبارك"، إلا أن كل كلمة ساخرة نزلت كالجلدة على جسد هذا النظام، فقال عنه: "أعظم ما تعلمته من نظام الرئيس مبارك هو كيف ينهزم وطن دون أن يحارب.. وكيف يتحلل مجتمع دون أن يموت".
تنبأ عامر، في كتاباته ومقولاته بما حدث في مصر بعد الثورة، من استحواذ الإخوان على السلطة، بعد شهرين من ثورة يناير بمقولته: "وريث الثورة أسوأ من وريث مبارك"، متخوفًا ومتوقعًا الأحداث القادمة على مصر حال تولي الإخوان الحكم، بقوله "شعب طيب وناس مسالمة ومبتحبش العنف، وفي ناس منظمة ولها اتجاهات تعود للقرون الوسطى، وهي اللي موجودة دلوقت وتحاول أن تورث الثورة، وبدأت خطتها في الاستفتاء على الدستور الأخير، عندما حاولوا المعركة السياسية لمعركة دينية".
انتماءه الأهلاوي، لم يمنعه من السخرية من ناديه، فربط الرياضة بالأحداث السياسية، في عصر استخدمت فيه الكرة لإلهاء الناس عن مشاكلهم، فهو من كتب "أعرف أن الرياضة تزيل الدهون لكنها لا تمحو الذنوب ولا تغفر الخطايا التي ترتكب باسمها، وأتعجب من الذين يفصلون الدين عن السياسة ثم يخلطون السياسة بالرياضة"، ويواصل بعدها حديثه الرياضي السياسي وهو يقرأ المشهد ويربط بين الأفكار بسرعة وتلقائية نادرة: "أثبتت الأحداث أن الوحيد في هذا البلد الذي يقوم بالتغيير الصحيح هو مانويل جوزيه"، كما شبه حال قطبي الكرة المصرية في "الأهلي والزمالك عاملين زي الحزب الوطني والإخوان لاغنى عنهما فهما طرفي المقص".
"سوف نعبر هذه المحنة عندما نعرف أن الضابط ليس (قابيل) والثائر ليس (هابيل)!" كتبها في 9 فبراير 2012، تعليقًا على الأحداث التي شهدتها مصر، ولم يكن يعلم أن وقته قد حان، فلم يمر سوى 3 أيام، حتى رأى مشهد الاشتباكات في الشارع بين الثوار والبلطجية، فلفظ أنفاسه الأخيرة، وعلى لسانه 3 كلمات "المصريين بيموتوا بعض"، فعاش يخفف على الشعب هموم وطنه بسخريته، ومات وهو يحملها أثقالًا.