صورة تذكارية للأستاذ محمد عبدالوهاب فى مستهل حياته
حالة من العداء الشديد حكمت العلاقة بين موسيقار الأجيال وأمير الشعراء، بعد أن تسبب الأخير فى منعه من الغناء على المسارح فى مستهل حياته الفنية، قبل أن يتقرب منه ويطلب التعرف عليه، فيلازمه «عبدالوهاب» كظله، ويغنى من أشعاره أعذب الألحان، تفاصيل كثيرة عن اللقاء الأول مع شوقى بك يرويها محمد عبدالوهاب ضمن صفحات مذكراته التى نشرتها مجلة «الكواكب» عام 1954، وفى نفس المجلة تطل النجمة كريمان لتروى قصة مقلب شربته فى رمضان حين كانت تزور عمتها فى مدينة إستنبول بتركيا، وتعرض مجلة «كل شىء والدنيا» تقريراً مصوراً عن النشاط الذى يعترى أصحاب الصناعات طوال الشهر الكريم، فيعرضون بضائعهم من الياميش والكنافة والفوانيس الرائعة.
حدثنا الموسيقار عبدالوهاب فى الحلقة السابقة من مذكراته عن فشله على المسرح.. أو فشل جمهوره فى فهمه.. وهو فى هذه الحلقة الجديدة يروى لنا قصة أول لقاء له مع صديقه المرحوم «أحمد شوقى بك» أمير الشعراء..
وقفت بالقارئ فى الجزء الماضى من المذكرات عند التحاقى بمعهد الموسيقى -وكان اسمه فى ذلك الوقت نادى الموسيقى الشرقى- وكيف سعى لى أولاد الحلال من أصدقائى الذين كانوا يعرفون سوء حالتى المالية للعمل فى وظيفة مدرس أناشيد..
وأعترف بأننى لم أفعل شيئاً فى سبيل خلق جيل موسيقى من تلاميذ المدرسة. وقد وضح لى بعد قليل من بدء عملى الدراسى الجديد، أن إلحاقى بهذا العمل لم يقصد به سوى الانتفاع بموهبتى فى الغناء أمام كل من يزور المدرسة من الوزراء والعظماء، شأن لاعبى الكرة، حين تتنافس المدارس على إلحاقهم بها لتكون شهرتهم فى لعب الكرة وسيلة لمفاخرة مدرستهم على المدارس الأخرى.
وأعترف كذلك بأن عدم اهتمام أولى الأمر فى المدرسة بهذا اللون من الدراسة الموسيقية الذى يخلق الروح الفنى فى الطلبة، كان أمراً يحز فى نفسى!
لقد كانت الأناشيد فى عرف مدارس ذلك الزمان مجرد مظهر من مظاهر الاحتفال. أو تقليداً من التقاليد التى لا مفر منها لاكتمال الأبهة، ولم يفكر أحد فى ضرورتها لتربية الذوق فى رجال المستقبل.. كانت مثل الاحتفال بجمل المحمل، أو توزيع الحلوى فى الأعياد الدينية على كبار الموظفين!!
عندما قابلت شوقى لأول مرة
وفى خلال تلك الفترة -وبالتقريب فى عام 1925- كنت قد بدأت الغناء فى الحفلات الخاصة والأفراح وكان الأجر الذى أتناوله عن الحفلة يتراوح بين أربعة وخمسة جنيهات، يأخذ التخت نصفها ولكن هذه الجنيهات القليلة كان لها فى جيبى قيمة الكنز، وكان لها فى نفسى وقع السحر. فقد كان هذا المبلغ فى ذلك الوقت مما يسيل له اللعاب، أضف إلى ذلك أننى كنت مبتدئاً، وكنت كذلك خالى الوفاض!
وحدث أن أقام نادى الموسيقى حفلة غنائية فى فندق «سان استيفانو» بالإسكندرية. وبصفتى من طلبة النادى المرموقين -ولا فخر- فقد سافرت مع إخوانى من الطلبة والأعضاء للاشتراك فى الحفلة وهناك غنيت قصيدة «جددى يا نفس حظك».. وبعد أن انتهيت من الغناء وشكرت الله على أن جنبنى الفشل فى أول حفلة حقيقية لى. صعدت إلى الغرفة التى كانت قد خصصت لنا فى الكازينو، ولم تمضِ بضع دقائق حتى جاءنى أحد الزملاء وقال لى متهللاً:
- عارف مين سمعك فى الحفلة؟
- مين؟
- شوقى بك.. أمير الشعراء!
ولم أُبْدِ اكتراثاً، فعاد الزميل يقول فى لهجة من يخبرنى بأننى قد ربحت يانصيب الدربى:
- ده عايز يشوفك.. تعالى أعرفك بيه.
ولكننى رفضت فى بادئ الأمر أن أذهب لأقابل أمير الشعراء. فلما أخذ الجميع يلحون على ويغبطوننى على هذا الحظ الذى أقبل على بلا سابق إنذار، رحت أفكر متردداً فى قبول هذه الدعوة، ثم ما لبث التردد أن انهزم فى النهاية تحت ضغط الزملاء. فذهبت لمقابلته.
ومن حق القارئ أن يعرف السبب الذى جعلنى أتردد فى مقابلة «شوقى بك» كل هذا التردد، وهو الذى كان الكبراء والعظماء يتسابقون إلى التقرب منه ومجالسته. كان السبب هو اعتقادى بأن شوقى بك هذا رجل مُؤذٍ ومتعجرف، ممن ينطبق عليهم المثل القائل «ابعد عن الشعر وغنى له»!
أما الذى بعث فى نفسى هذا الاعتقاد بالنسبة لشوقى بك، فهو حادث وقع بينى وبينه -ودون أن نلتقى- قبل ذلك بنحو أربع سنوات!
ولنرجع إلى الوراء هذه السنوات الأربع.. لأروى قصة ذلك الحادث.
بلاغ إلى الحكمدار!
ففى عام 1921 حينما كنت أعمل بفرقة عبدالرحمن رشدى مغنياً بين الفصول، جاء «شوقى بك» ذات ليلة ليشهد التمثيل، وكانت الفرقة تقدم فى ذلك المساء على ما أذكر رواية «الشمس المشرقة».. وتناهى إلى سمعى من حديث الممثلين أن «شوقى بك» موجود فى أحد البناوير. ولم أكن على حداثة سنى فى ذلك الوقت أجهل من يكون «شوقى بك». فقد كنت ألاحظ اهتمام الناس بالحديث عنه. ولذلك حاولت أن أجيد الغناء فى تلك الليلة حتى أحظى بإعجابه.
ولكن فى اليوم التالى فوجئ عبدالرحمن رشدى بزيارة رسل باشا حكمدار البوليس الإنجليزى الأسبق. الذى أخبره بأن «شوقى بك» قدم إليه شكوى شفوية من السماح لصبى صغير مثلى بالغناء على المسرح. مع ما فى ذلك من منافاة لقواعد الأخلاق وضرورة حماية النشء من الاتجاه الفاسد، ولمّا لم يكن هناك قانون يمنع مزاولة الصغار للغناء فى المسارح، فقد طلب «رسل باشا» من عبدالرحمن رشدى بصفة شخصية أن يعمل على عدم إثارة القيل والقال فى هذا الشأن بمنعى من الغناء، وبلغتنى بالطبع أخبار هذه الشكوى، فشعرت بكره شديد نحو «شوقى بك» وزاد فى كرهى له أن الظروف نفسها تطورت بعد ذلك بسبب حاجة الناس إلى اللون الفكاهى من المسرح على أثر الكفاح الثورى ضد الإنجليز، فتوقفت فرقة عبدالرحمن رشدى تاركة الميدان لفرقتى نجيب الريحانى وعلى الكسار.. ثم التحقت بفرقة الكسار ولم أمكث بها إلا فترة قصيرة لانعدام الانسجام بين طبيعتى الجادة وبين النوع الفكاهى كما ذكرت.
وفى الفترة التى انزويت فيها عن الوسط الفنى من سنة 1921 إلى سنة 1924، كنت أعتبر «شوقى بك» مسئولاً إلى حد ما عن حالة الركود التى سيطرت على نشاطى الفنى وكلما جاء ذكر «شوقى بك» أمامى، تصورته عدواً لدوداً لى، كل همه أن يحاربنى أو يؤذينى، أو تخيلته طاغية مستبداً يريد أن يستعبد الضعاف أمثالى بجاهه، ومرت الأعوام حتى التحقت بنادى الموسيقى الشرقى وغنيت فى حفلة النادى بكازينو سان استيفانو وما زال كرهى لشوقى متأصلاً فى نفسى ولهذا السبب ترددت فى مقابلته حين أتيحت لى الفرصة.. ثم قبلت أن أذهب إليه وفى النفس أثر من الكره والغضب.
وكانت مقابلتى لشوقى نقطة تحول مهمة فى حياتى، تلك المقابلة التى لم أتوقع من ورائها أى خير، وقد جعلتنى أنظر إلى شوقى نظرة أخرى، وألمس فيه إنسانية مذخورة، وصيرتنى سعيداً.
الكواكب 1954
تعليقات الفيسبوك