مؤسس فرقة الطنبورة ومركز المصطبة: حلمت بحفظ التراث ونجحت
إبراهيم زكريا مع فرقة الطنبورة البورسعيدية التى أسسها
آمن زكريا إبراهيم بأن الفلكلور والفن الشعبى الغنائى ليس مجرد بضع أغان متوارثة، يرددها العوام فى المناسبات الاجتماعية ثم ينتهى الأمر، بل هو هوية، إذا ضاعت ضاع معها التراث الحضارى للمصريين، وتاريخهم الفنى والاجتماعى، فقرر أن تكون رحلة حياته كلها هى إعادة إحياء هذا التراث من جديد، ثم حفظه ليكون وثيقة فنية تاريخية للأجيال الجديدة، تعرفهم بموهبة وإبداع أجدادهم.
تكوين فرقة «الطنبورة» البورسعيدية، ثم رعاية وتشجيع فرق الموسيقى الشعبية فى المحافظات الأخرى، كانت أولى خطوات «زكريا»، التى انتهت بأهم مركز للموسيقى الشعبية فى مصر، وهو مركز «المصطبة»، ومقره وسط القاهرة، الذى يعتبر منفذاً لفرق الموسيقى الشعبية لعرض موسيقاها وأغانيها من خلال مسرح «الضمة»، أمام الجمهور العادى فيتعرف عليها، ويلتحم بما تقدمه من إرث حضارى، لتتحقق حالة الإبداع القصوى تحت سماء القاهرة.
زكريا إبراهيم: الفن الشعبى كان بالنسبة لى ونساً وصديقاً.. ولو ضاع نخسر تراثنا الحضارى.. ومهمتنا تقريب المصريين بإقامة حفلات دائمة لتلك الفرق بأسعار رمزية.. ومسرح "الضمة" أنقذ فرق الموسيقى الشعبية بعرض موسيقاها وأغانيها للجمهور
«ساعدنى الفن الشعبى كثيراً خلال سنوات التهجير، فكان لى ونساً وصديقاً، يقربنى من مدينتى التى لا أستطيع زيارتها بسبب ظروف الحرب الدامية»، كلمات «زكريا» حول بداية حلمه، فبعد عامين على النكسة، كان التهجير من نصيب أسرته مع الكثير من العائلات من محافظة بورسعيد.
«فرقة المهجرين بالسنبلاوين»، أول فرقة موسيقى شعبية ينضم إليها «زكريا»، بينما كان عمره لا يزيد على 19 عاماً، وكانت مشاعر الغربة والرغبة فى العودة هى المسيطرة على أعضائها، وضمت الفرقة معظم فنانى مدن القناة ممن يتقنون فنون العزف والغناء والرقص على آلات مثل السمسمية والعود، وكانت رقصة «البمبوطية» هى رفيقه الذى لم يتخل عنه أبداً: «كنت أشتاق إلى أصدقائى وأقاربى، أسلوب حياتنا الحر، وتعلمت من خلال وجودى فى الفرقة أنه يمكن بالرقص والغناء حفظ ذكرياتك وتاريخك، ومن هنا أدركت أهمية الفن الشعبى، وهى القيمة التى تغيب عن أعين الكثيرين».
الدراسة فى المعهد العالى للتعاون الزراعى فى القاهرة، وانخراطه فى الحركة الطلابية خلال فترة السبعينات التى كانت تنادى بتحرير سيناء، ومزيد من الحرية والديمقراطية، ثم الالتحاق بالجيش، كل ذلك أسهم فى رفع مستوى وعى «زكريا» السياسى والفكرى، ليقرر بعدها العودة إلى بورسعيد والبدء فى البحث عن فنانى الموسيقى الشعبية: «فى البداية مثل الأمر صدمة، بورسعيد كانت تغيرت تماماً فى عام 1980 عندما عدت، وساهم فى ذلك إنشاء السوق الحرة، حيث أهدرت كل الجوانب الروحية الخاصة بالتراث البورسعيدى، وفرغته من مضمونه الاجتماعى فسيطرت المادية الصرف، والاهتمام بفكرة جمع المال فقط، وتمثل ذلك فى توارى كل فنانى التراث البورسعيدى فى الظل، بعد أن شعروا بعدم التقدير أو الاهتمام».
بدأت الاهتمام بعد "النكسة".. وانخراطى فى الحركة الطلابية والتحاقى بالجيش رفعا وعيى السياسى
رغم الرفض القوى الذى واجهه «زكريا» فى البداية من معظم فنانى الموسيقى الشعبية فى بورسعيد، إلا أنه لم ييأس مطلقاً، بل استمر فى محاولة تجميع أهم حفظة التراث من المغنين أو العازفين، وحتى الراقصين، حتى نجح بعد 8 سنوات كاملة، فى ديسمبر عام 1988، فى تكوين الفرقة التى طالما حلم بها «الطنبورة» البورسعيدية: «كنت بلف على كل فنان، وأروح له فى بيته وفى أماكن شغله، علشان يوافق، ولما اتكونت الفرقة كان فيها أكتر من 20 فنان، كلهم من كبار السن، لأنهم وحدهم كانوا لديهم سر الفن البورسعيدى من الرقصات التى تعبر عن طريقة حياة الصياد البورسعيدى، والأغانى الخاصة بالمقاومة والحرب والانتصار».
الحرب التى تعرض لها «زكريا» مع فرقته الموسيقية فى البداية، من شركات الموسيقى وأحياناً الفرق الأخرى بحجة أنهم «عواجيز» لا يمكنهم تقديم أى شىء، لم تؤثر فيه، بل على العكس نجح فى أولى جلسات الفرقة فى تسجيل أكثر من 20 ساعة من الغناء التراثى الشفوى الخاص ببورسعيد: «صممنا على النجاح والعمل، ويمكننا أن نقول الآن بفخر إننا وصلنا للعالمية، من خلال المشاركة فى الكثير من الحفلات فى دول العالم المختلفة، وكانت أهمها بالنسبة لنا وأشهرها هى حفلة فى باريس عام 1994، ومن وقتها ونحن لا نتوقف عن الجولات الخارجية».
ويعتبر «إبراهيم» أنه توج نجاحه فى «الطنبورة» بتأسيس مدرسة للبراعم داخل الفرقة عام 1995، وفيها تخرج الكثير من شباب العازفين الذين أثروا الحياة الثقافية فى مصر.
كانت «الطنبورة» هى مجرد قطرة فى بحر أحلام «زكريا»، فبعدها انطلق لتحقيق حلمه الأكبر وهو إعادة إحياء وتكوين فرق الغناء الشعبى، التى توقفت بسبب الحرب وتغير الظروف الاقتصادية والاجتماعية: «كان إحياء الفرق التى توقفت هو أولى خطواتى، ومن بورسعيد توجهت مباشرة إلى الإسماعيلية، وكان إحياء فرقة الصحبجية، مع الحاج محمد الوزيرى هو أول نجاح لى، ثم انطلقت إلى السويس، وشاركت فى إحياء الحنة السويسى»، مؤكداً أنه ما زال يتذكر تلك الأيام بتواريخها، التى كان أغلبها فى عام 1996.
ومن الفرق التى كان لـ«إبراهيم» دور فى ظهورها على الساحة الغنائية هى «الرانجو» السودانية، قائلاً: «من قراءاتى فى مجال الفن الشعبى، علمت أن فى عهد محمد على كان يستقدم عمالاً سودانيين لجنى القطن، وكانت وسيلتهم فى الترفيه التى يلجأون إليها خلال عملهم فى الحقول هى آلة «الرانجو»، فبدأت أبحث عن عازفى تلك الآلة وكونت الفرقة».
يشبه «زكريا» آلة الرانجو بـ«الماريمبا»: «هى الشكل البدائى من الأكسليفون، وموسيقاها تجمع بين الشكل الأفريقى الإيقاعى ونغمات مصرية، والآن الفرقة من أشهر الفرق الغنائية الشعبية ليس فقط فى مصر بل على مستوى العالم».
كانت الخطوة التالية لـ«زكريا» توثيق فن الغناء الشعبى، فأسس مركز «المصطبة» للموسيقى الشعبية المصرية عام 2000، الذى يستهدف حفظ وأرشفة وتوثيق وتطوير الموسيقى الشعبية المصرية التقليدية، قائلاً: «مع مرور الوقت أدركت أن فن الغناء الشعبى مهدد بالانقراض لأسباب مختلفة، منها أن معظم تلك الأغانى يتم تداولها شفاهياً فقط، فتموت بوفاة الحافظين لها، كما أن البعض يتعامل معها كمنتج سياحى يتم تقديمه للمقبلين لمصر من الخارج، وليس أداة تعبر عن تاريخ وجوهر التاريخ الشعبى المصرى الفنى يجب أن يراه ويفهمه أبناء البلد، لذا فكرت فى مركز المصطبة».
يركز مركز المصطبة، بحسب «زكريا»، على «تقريب» المصريين من الفنون الشعبية المختلفة، من خلال إقامة حفلات دائمة لتلك الفرق بأسعار رمزية جداً، إلى جانب عدة مهام أخرى مثل توثيق وحفظ الأغانى الشعبية، سواء فيديو أو على مسجلات صوتية، تطوير شكل الموسيقى الشعبية من جميع جوانبها سواء فى أداء الموسيقيين أو الآلات نفسها، بالإضافة إلى تسهيل الأنشطة التعليمية لصنع جيل جديد يثرى الحياة الفنية الشعبية فى مصر: «أنشأنا متحفاً فى المركز يضم الآلات الموسيقية القديمة، ويحكى قصة تطورها، بجانب الحفلات التى عُرضت فيها تلك الآلات، إلى جانب 800 ساعة فيديو للأغانى التراثية المختلفة، والحوارات مع أهم القامات فى ذلك المجال».
ويعتبر «زكريا» أن مسرح «الضمة»، الذى تم إنشاؤه مؤخراً داخل المركز، هو آخر خطوات توثيق فن الغناء الشعبى، قائلاً: «هو بمثابة الرئة التى تسمح للفرق الموسيقية الشعبية المختلفة بعرض موسيقاها أمام الجماهير، والالتقاء بهم وجهاً لوجه، وحالياً نحن نتعاون مع شركة تسجيل موسيقية فى بريطانية لإنتاج ألبومات لمختلف تلك الفرق وتسويقها عالمياً وعربياً، لأننا فى النهاية نريد للفن الشعبى المصرى الانتشار، فيراه العالم كله ويعرف أهميته».