م الآخر| عازف البيانو
مثل كل ليلة يذهب إلى عمله في المول الكبير في القاهرة، ليجلس أمام البيانو الكبير ويعزف ألحانا موسيقية متنوعة، يسمعه الكثيرون ولا يشعر به إلا القليل، ولا يشعر هو إلا بأقل من القليل.
يتذكر الشاب الثلاثيني قدومه من بلدته الريفية للقاهرة، للحصول علي شهادة جامعية في الهندسة التي لا يحبها .. فهي فقط وسيلة لتحقيق حلم الحاج أن يكون أبو الباشهمندس.. نجح في اجتياز سنوات الدراسة الصعبة، بينما لم تنجح الكلية في المرور إلى قلبه ولو لمره واحدة.
يبدأ الشاب الثلاثيني الوسيم في هز رأسه، فيهتز شعره الناعم مع كل حركة، وتتجه أصابعه الخبيرة إلى أصابع البيانو، تلثمها كما العاشق الذي يرتشف رحيق شفتي معشوقته وهو يقوم بإعداد البيانو للعزف.
يتذكر كيف كان تقريع والده وتحطيم موهبته الدائم، عندما يصر كل من حوله أن يعمل بشهادة الهندسة، بينما يقرر هو أن يحترف الموسيقي التي يحبها..لا يجد نفسه في مجال المقاولات والإشراف علي بناء العمارات والمباني المرتفعة، بينما يجد نفسه في انغام البيانو المتراقصة في الفراغ.
يبدأ عزف إحدى أغنيات فيروز والرحابنة.. يعزف ويعزف ويعزف.. ثم يفيق في نهاية العزف على صوت تصفيق حاد من متابع هنا أو متابعة هناك.. يلاحقونه بنظراتهم الغريبة التي تحمل الأسئلة الكثيرة؛ بينما تجبرهم آذانهم على الوقوف إلى جانب عازف البيانو حتي ينهي مقطوعته الرقيقه.
يتذكر كل شهر عند ذهابه إلى بيته في قريتهم وعتاب زوجته المستمر له..عمرك ما هتتقدم ولا هتحس بينا، ولا هتعرف تبنيلنا بيت لوحدنا.. ياخي كل زمايلك المهندسين بنوا عمارات، وأنت قاعد تطبل وتصيع في مصر في القرف اللي أنت فيه ده ..أنا قرفت من العيشة دي ..يا تشوفلك عقد وتسافر السعودية تجيب قرشين يسترونا ياتسيبني بقي أروح لحالي ..وابنك أنا هربيه لوحدي ..احسن ما تربيهولي يلطع ماسك صاجات.
يستكمل العزف وأصابعه تداعب أصابع البيانو تارة، وتكاد تعتصرها تارة كمحب افتقد محبوبته لسنوات، فيكاد يعتصره من شدة الاحتضان.. ينتقل من أغنية لفيروز إلى أخرى.. سلملي عليه.. تتراقص في مخيلته صورة حبيبته أيام الجامعة التي اختفت من الحياه نهائيا.. من حياته هو وتزوجت هذا المعيد الغني ابن الأستاذ في الكلية الذي كان يمتلك شقه في حي فاخر بالقاهرة.
يبحث عن شئ مفقود في عيون المشجعين الذين يمرون عليه كل يوم.. كل يوم يمر عليه العشرات.. ساخرين وشاكرين ..من يستخف به ومن يشجعه ..أحدهم يطلب مقطوعه لعبد الوهاب وأخرى تطلب لسيد درويش بينما يستخف به أحدهم طالبا أغنية لسعد الصغير.
يتخيل كيف يقضي لياليه الطويله وحيدا في غرفته في الفندق الملحق بالمول الضخم.. يراجع نوتاته الموسيقية حتي لا يخطأ أثناء العزف أمام الجمهور الذي لا يستمع ولا ينصت إليه إلا فيما ندر.
استقر أخيرا علي شئ واحد ..أن يعزف لنفسه فقط.. أن يستمتع إلى حد الثماله كالعاشق الذي يستجلب كل لحظات المتعة. عندما يرتشف كأس الخمر عندما يلمس أصابع البيانو.. استشعر السعاده لأول مرة.. لن يعزف مجددا لاستجداء مزيدا من التصفيق.. لكن لجلب مزيدا من السعادة.. سعادته هو.
(الآراء المنشورة كتبها القراء ولا تعبر بالضرورة عن رأي موقع وجريدة "الوطن"، وإنما تعبر عن أراء أصحابها)