وطنية الكنيسة عبر العصور.. دفتر أحوال المقاومة
كاتدرائية الأقباط الأرثوذكس فى العباسية رمز وطنى
«وطن بلا كنائس أفضل من كنائس بلا وطن»، هكذا كانت الكلمة الخالدة للبابا تواضروس الثانى، بابا الإسكندرية بطريرك الكرازة المرقسية، بعد أن أتاه نبأ اعتداء الإخوان وأنصارهم على الكنائس حرقاً وتدميراً عقب فض اعتصامَى رابعة العدوية والنهضة، فى 14 أغسطس 2013، وأتبعها للعالم كله بأن «هذا ثمن بسيط نقدمه من أجل حرية الوطن».
تلك الكلمات الوطنية التى رفضت الفُرقة وأرادت إظهار وحدة المصريين أمام الجميع، وحدة الأرض والمصير، لم تكن جديدة أو غريبة على الكنيسة القبطية الأرثوذكسية ورجالها التى يحفل التاريخ المصرى بالعديد من الوقائع والأحداث التى سجلت المواقف الوطنية المشرفة لها، وأظهرت كيف التصق بابوات الكرازة المرقسية بتراب هذا الوطن والتحفوا بسمائه منذ أن بشّر «مارمرقس» بالمسيحية على أرض مصر وحتى البابا الـ118 فى تاريخ بابوات الكنيسة.
رفضت حماية روسيا فى عهد "الجاولى" والإنجليز فى عصر "كيرلس الخامس"
فالأرض التى باركها المسيح طفلاً وأمه العذراء مريم قبل ألفى عام، وقف عليها البابا بطرس السابع، البطريرك الـ108 فى تاريخ الكنيسة، يرفض عرض قيصر روسيا بوضع الكنيسة القبطية الأرثوذكسية تحت حمايته، فحسب التاريخ الكنسى زار سفير روسيا البابا بطرس والملقب ببطرس الجاولى، وهو يحمل له رسالة من القيصر، ودار بينهما الحوار التالى بحسب المراجع الكنسية:
السفير: لقد طلب منى مولاى جلالة القيصر إبلاغكم بأنه يعرض عليكم حمايته.
البابا: هل جلالته إنسان مثلنا يأكل ويشرب وسيموت؟
ورد عليه السفير بالإيجاب، وهنا قال البابا: «كيف نقبل حماية من سيموت؟ نحن فى حمى الله الذى لا يموت»، ليخرج السفير من المقر البابوى يجر أذيال الفشل.
أما البابا كيرلس الرابع، البطريرك الـ110، والملقب بـ«أبوالإصلاح»، فشجع على تجنيد الأقباط فى الجيش المصرى، حتى إنه عندما أشيع أنه طلب من الخديو إعفاء الأقباط من الخدمة العسكرية، قال: «حاشا أن أكون جباناً بهذا المقدار حتى لا أعرف الوطنية أو أفترى على أبنائى الأقباط بتجردهم من محبة وطنهم وعدم الميل لخدمته والدفاع عنه وحماية حدوده وأرضه، فليس هذا ما طلبته ولا ما أطلبه». ويشتهر إلى جانب ذلك بمواقفه الوطنية الرافضة للاستعمار الإنجليزى، ومنع وقيعة الإنجليز بين مصر وإثيوبيا.
"أبوالإصلاح" دافع عن تجنيد الأقباط فى الجيش و"شنودة" أسهم فى المجهود الحربى خلال حرب أكتوبر
ونفس الأمر كان مع البابا كيرلس الخامس، البطريرك الـ112 فى تاريخ الكنيسة، الذى رفض عرض اللورد كتشنر، بحماية إنجلترا للكنيسة، قائلاً له: «لن نطلب نحن الأقباط حماية إلا من الله ومن عرش مصر». وكان البابا كيرلس الخامس على علاقة ودية قوية بالزعيم الوطنى سعد زغلول، خاصة بعد قيام ثورة 1919، فجعل من الكنائس منابر للخطباء، وأمر القساوسة بأن يتعاونوا مع شيوخ الأزهر على توعية المصريين فى طلب الاستقلال ووحدة وادى النيل، وعندما تشكل الوفد المصرى برئاسة سعد زغلول وسفره إلى لندن فى 11 أبريل 1919 لمفاوضة الإنجليز فى الاستقلال، كان من بين أعضائه أربعة من الأقباط: سينوت حنا، جورج خياط، ويصا واصف، ومكرم عبيد.
وقد ظل البابا مرتبطاً بـ«سعد» وبالثورة حتى توفى مع سعد زغلول فى نفس السنة ونفس الشهر.
هذا بالإضافة إلى دور كهنة الكنيسة بداية من القمص ملطى سيرجيوس الذى وقف ضد الاستعمار البريطانى لمصر والسودان، متحدياً سطوة الاحتلال بالخُطب التى ألقاها أثناء ثورة 1919 من على منبر الأزهر الشريف الذى اعتلاه أكثر من مرة ليخطب فى الناس، ويحثهم على الجهاد ضد الاحتلال. مروراً بالقمص «بولس غبريال» الذى فتح كنيسة السيدة العذراء المغيثة بحارة الروم للثوار فى 1919، حتى كان ابنه القمص غبريال بولس أول من خبأ أنور السادات من الأمن داخل الكنيسة قبل ثورة 1952، وصاحب أول بيان كنسى بالتهنئة بثورة 23 يوليو، والذى دعا جميع قادة الثورة لحضور حفل عيد النيروز فى الكنيسة الأثرية بحارة الروم، وحضره كل من الرؤساء محمد نجيب وجمال عبدالناصر وأنور السادات.
وفى العصر الحديث، ساند البابا كيرلس السادس الرئيس جمال عبدالناصر، خاصة بعد هزيمة 1967، وأصدر قراراً بمنع سفر الأقباط إلى القدس، ليأتى بعده البابا شنودة الثالث، الذى زار الجبهة خلال حرب 1973، وأسهم فى المجهود الحربى، وأرسل الخطابات إلى الجنود يدحض خلالها فكرة أن «إسرائيل هى شعب الله المختار»، بل وأخذت الكنيسة القبطية، بما لها من مقرات فى دول العالم، تشرح موقف مصر وتدعمه خارجياً، كما رفض البابا شنودة التطبيع مع إسرائيل، واتخذ قرار منع زيارة الأقباط إلى القدس حتى تحريرها من الاحتلال.
"سرجيوس" خطب ضد الاستعمار من منبر الأزهر و"غبريال" فتح كنيسة حارة الروم للضباط الأحرار
هذا التاريخ الطويل من الوطنية كان على درة تاج البابا تواضروس الثانى، التى تجلت مواقفه خصوصاً بعد ثورة الثلاثين من يونيو 2013، وكان أبرزها رفض محاولات بعض القوى الخارجية تمرير قانون فى الكونجرس الأمريكى لحماية الأقباط، بعد الحوادث الإرهابية التى استهدفت الكنائس والأقباط، ليخرج البابا ويقول علناً عبر شاشات التلفاز: «لا نقبل هذا، الأقباط مصريون، وحمايتهم هى مسئولية الله أولاً ثم باقى المصريين، وهى أمور لا نقبلها على الإطلاق ومرفوضة تماماً، والكنيسة المصرية وطنية منذ يومها الأول وستظل هكذا».
"حليم": كانت دائماً حاضنة للحراك الشعبى
وحول ذلك، قال القس بولس حليم، المتحدث الرسمى باسم الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، لـ«الوطن»، إن الكنيسة مقوّم من مقومات الوطن، كما وصفها عميد الأدب العربى الدكتور طه حسين، حيث قال عنها: «هى مجد مصرى قديم، ومقوّم من مقومات الوطن المصرى..»، مشيراً إلى أن الكنيسة كانت على مر تاريخها أحد أعمدة المجتمع والدولة المصرية، وظلت على مر العصور وما زالت أحد صمامات الأمان للوطن بالإضافة إلى محافظتها على هويتها القبطية.
وأضاف «حليم»: «كانت الكنيسة القبطية المصرية دائماً حاضنة للحراك الشعبى الوطنى، فنرى القمص بولس غبريال، راعى كنيسة العذراء بحارة الروم زمن ثورة 1919، يفتح أبواب الكنيسة للثوار الذين منعتهم قوات الاحتلال من دخول الجامع الأزهر، لتتحول تلك الكنيسة إلى منبر لثورة الشعب طلباً للاستقلال، وفى السنوات القليلة الماضية رأينا البابا تواضروس الثانى مع ممثلى الشعب يوم الثالث من يوليو 2013 يقف بجانب الإرادة الشعبية لثورة الملايين فى الثلاثين من يونيو».
وتابع المتحدث باسم الكنيسة: «وفى شهر أكتوبر 1973، نجد البابا شنودة الثالث أمام عيون الجنود الأبطال وهم يحررون الأرض المحتلة يشد على أيديهم، وبين المصابين فى المستشفيات يطمئنهم ويشجعهم، وبعد ذلك بأربعين عاماً رأينا خَلَفه، خليفة مرقس الرسول، شامخاً وسط جو امتلأ هواؤه برائحة رماد الكنائس المحترقة فى الرابع عشر من أغسطس 2013 حين قال بكل حكمة ووعى باللحظة ومعطياتها عبارة كانت بمثابة صمام أمان، مؤكداً أن (وطناً بلا كنائس أفضل من كنائس بلا وطن)، كما لم يتوقف البابا خلال رحلاته وزياراته الرعوية إلى مختلف بلدان العالم عن إجلاء الصورة الحقيقة لمصر الوطن، وكانت الكنيسة، ممثلة فى باباها، تدعم وتدفع عجلة التنمية وتقف كتفاً بكتف مع المؤسسات الوطنية لسحب البلاد من على مشارف الفوضى إلى طريق التنمية التى تضمن لمصرنا التقدم والرخاء، فرأينا قداسته فى أوائل الصفوف عند افتتاح قناة السويس الجديدة وزيارته لمجراها الملاحى، وكذلك إبرامه اتفاقية التوعية بضرورة الحفاظ على المياه وترشيد استخدامها، ويمتد هذا الأمر إلى النواحى الاقتصادية ومساندة المشروعات القومية وكل أمر يدفع بعجلة الإنتاج ويحقق آمال وطموحات الشعب المصرى».