بالصور| الأقزام يعانون في مصر.. قريبون من الأرض وبعيدون عن البشر
يرمقهم المارة بنظرات قاسية، يتفحصونهم من أصابع أقدامهم مرورا بجسدهم غير المتناسق، نهاية برؤوسهم التي تحتضن عيونهم المحفورة حدقاتها في جبهاتهم، حياتهم كلها تتعلق بإحدى مقاييس الطول "السنتيمتر"، كل سنتيمتر يزيدونه يُقرضهم جرعة أمل في الحياة والعيش بشكل طبيعي، أيادٍ تلامس الجباه بالكاد، وأخرى غير موجودة، أقدام تجر بعضها بعضا فشلت لحاقًا بالمواصلات العامة، تحدوا تحدياتهم، استغلوا السخرية منهم، فصاروا مهرجين، يتراقصون، يتلاكمون، يُهرجون، فيبعثوا البهجة في نفوس المشاهدين، فيما ظلت نفوسهم مُثقلة بالهموم، مأساتهم لا تنحصر فقط في قصر قاماتهم، وإنما تشمل نظرة المجتمع إليهم، وكأن دورهم في الحياة لا يعدو مجرد مادة للتسلية والسخرية، إضافة إلى شعورهم بأنهم غير مرغوب بهم، فتصبح التسلية والسخرية سلاحهم الوحيد لكسب لقمة العيش. منذ عهد القدماء المصريين، تقلدوا المناصب الوزارية، "سنب" الوزير القزم دليل على ذلك في الأسرة الخامسة من تاريخ الفراعنة، التي حكمت مصر وكان آخر حكامها كليوباترا السابعة المنحدرة من السلالة البطلمية، تعاقب القرون حولهم من مصدر للسلطة إلى مصدر للسخرية.[FirstQuote]
118 سنتيمتر، رقم لا ينساه، قامته لم تزد سنتيمترًا واحدًا، منذ أن بلغ 21 عاما، هو القزم الوحيد بين 7 أشقاء طبيعيين، يداه قصيرتان، وحجم جمجمته كبير، كفاه عريضان، عيونه غائرة اتخذت مكانا عميقا أسفل جبهته، لا يعبأ بأنه "قِزم"، لا أحد يجرؤ التعرض له، في المدرسة أطلقوا عليه "سيطرة"، يتحكم في مقاليد الأمور، هو وصديق الدراسة "حسام"، لم ينفصلا، حتى فارق السنتيمترات الكبيرة بينهما لم يفرقهما، يسيران في الشارع متجاوران، يعتقد المارة أن والدا يسير مع طفله الصغير، لكن لحظات فاصلة حتى تتبين الحقيقة للجميع "ده نبوي وحسام"، لم يُضعف عزيمتهما حاقد أو حاسد، ولم يجرؤ مدرس أن يوبخهما أمام التلاميذ، وإلا سيكون عاقبه من جنس عمله، في أولى أيام الدراسة يتذكر "نبوي" نصائح والده بالجلوس في الدكة الأمامية حتى يتثنى له رؤية السبورة، إلا أن الوالد كان يجهل أن ابنه يسيطر بالفعل على الأمور "كنا بندخل الفصل.. نقعد أنا وحسام في التختة اللي قدام ونوزع بقية الطلبة على مزاجنا"، سار في دراسته بيسر، حتى السنة الرابعة في المرحلة الابتدائية، لكن انشغاله بالمسرح والفنون الاستعراضية؛ تسبب في رسوبه في هذا العام، فيما يمر رفيقه حسام إلى السنة الخامسة، تاركا رفيقه متسربا من التعليم، وهو لم يكمل عامه العاشر بعد "مقدرتش أكمل لأن زميلي هو بصراحة اللي كان بيقويني"، اعتقد "نبوى" في لحظة أن استمراره في الدراسة ستمحو سيطرته ونفوذه، إلا أنه شعر بالندم بعد أن وصل عمره 31 عاما.
يُدخل "نبوي" الضحكة في نفوس مشاهديه ممن يقبلون على عروض السيرك أو المسرحيات، أولى خطواته على خشبة المسرح كانت عام 1990، عمل في مسرحية "ليش يا عليش"، لا يجد حرجا في أن يكون سببا في إدخال البهجة في نفوس الناس، لديه مبرراته "عادل إمام فنان كوميدي.. هل معنى ذلك إنه بيهزأ نفسه.. بالتأكيد لأ"، عام 2009 لأول مرة تتحرك مشاعر الحب لدى "نبوي" تجاه إحدى الفتيات القزمات الذي وقع فيها مُغرمًا، إلا أن "هناء" تجاهلته دوما لكنه أصر على حُبه بعد أن أسرت قلبه.
قصر قامتها حال دون خروجها في الشارع، حتى لقضاء حاجات البيت؛ لخجل يتخللها، تُفكر ألف مرة قبل أن تهبط درجات سُلم بيتها بمنطقة الكوم الأحمر، حتى جاءها أحد المنتجين بعروض مسرحية لها، خاضت أولى التجارب بعد أن أقنعها والدها بضرورة الاختلاط بالناس، وعلى خشبة المسرح أدت دورها فى مسرحية "ادلعي يا دوسة"، فتبدد الخوف الذي سكنها. كل أشقائها وشقيقاتها طبيعيين، هي القزمة الوحيدة في البيت، ليس هناك أية أسباب وراثية أو مشاكل طبية، القدر فقط هو من قرر ذلك، تتذكر والدتها وهي تحكي لها "أصلى لما كنت حامل فيكي.. كنت بحب أتفرج على مصارعة الأقزام"، رويدا رويدا الخجل ذهب، واستطاعت السير في الشوارع، حينما يتملقها أحد بنظرات السخرية أو التعجب تصرخ فيه "ما تيجي تصورني أحسن".
"نبوي اتخذ قراره، وهناء وافقت، الاثنان سيتزوجان قريبًا، حددا ميعاد الفرح المُنتظر، 11 أكتوبر 2009، أزالا أسباب خوفهما، عرفا معنى أن حالهما هو حال البشر، بل ربما يكون أفضل، فهناك الضرير الذي ينتظر نورا يتخلل حدقتا عيناه، والمُعاق جسديا الذي يحتاج رعاية كاملة، والمُعاق ذهنيا الغائب عن الواقع وآخرون"، كل ذلك لم يكن يشغل بالهُما، اليوم الذي تنتظره أي فتاة شارف على المجيء، جهزت عُدتها، من فستان الفرح، جاءت به من محل أطفال بإحدى شوارع وسط البلد، أضافت عليه مشغولات حتى لا يبدو طفوليًا، ملابس الصبية أضحت زيا لعُرسهما، لا يهم، كل ما شغلهما هو تلك الليلة، أن تمر على خير، كوشة في منطقة شعبية، أنوار مُضاءة، مقاعد في انتظار المُحبين والمعازيم، سيارة في انتظار انتهاء الليلة حتى يُزف العروسين، شقة مفروشة بكل ما هو جديد في انتظارهما، الليلة مرت على خير.
الأقزام في الجيش لا وجود لهم، بطاقتهم تؤكد أنهم مصريين، لا يحملون أي جنسيات أخرى، وليس لديهم ما يُعيق تجنيدهم لخدمة الجيش، إلا أن مقاييس قبول المجند حددت الطول 160 سنتيمترا، دون ذلك "عاجز" عن دخول المؤسسة العسكرية.
"مبروك المدام حامل"، قالها الطبيب لـ"نبوي وهناء"، أول مولود لهما، "ذكر" كما عرفا من جهاز السونار، قبل أن يُكمل الطبيب حديثه "بس الطفل قزم"، لترد عليه الأم "وماله يا دكتور.. اللي يجيبه ربنا كويس"، جاء الوليد إلى الدنيا، بعد مخاض صعب طويل، قبل أن يُسميه "نبوى" على اسم والده "سعد"، الآن أتم الطفل عمره الثالث، ويزداد أفراد الأسرة إلى أربعة بقدوم مولود آخر قزم مثلهم، لتسير العائلة القزمية في الشارع مجيئه وذهابا، في أواخر أيام الأسبوع يسير "نبوي" وأسرته نحو بيت والده، يقطعون الطريق من منطقة صفط اللبن إلى إمبابة، أجساد صغيرة، يحمل كل منهما طفلا بيديه، يتساوون مع والديهما تقريبا في الطول، يذوقون المرار، وقت صعودهم إلى الأتوبيس أو حتى الميكروباص، درجات السلم أعلى منهم، ينجحون في الصعود ثم النزول، فيصطدمون بسنتيمترات صعبة تتمثل في رصيف عالٍ أقامته الدولة لتقطع به الطريق، دون النظر إلى قصار القامة، يحاولون ويجاهدون الصعود، وما أن يحققوا الفشل، حتى يتسلقوه بأيديهم ثم أرجلهم، وكأنهم يقفزون من على سور عالِ، ينالون قسطا لا بأس به من السخرية، لكن "نبوي" دوما ما يؤكد لزوجته "إحنا ناقصين طول.. لكن هما ناقصين عقل ودين".[SecondQuote]
بعض الدول العربية تمنح القزام حقوقا خاصة؛ في السعودية، يحصل كل قزم على 1000 ريال، علاوة على قيام الحكومة هناك بتوفير وظيفة له، ثم إعطاؤه قطعة أرض حتى يتثنى له بدء حياة جديدة.
"نبوي" جاوز الثلاثين من عمره، ولديه من الأطفال اثنين، ويمر العمر، وسيأتي اليوم الذي لا يستطيع فيه تقديم أي جديد على المسارح أو السيرك "مينفعش وأنا كبير أرقص وألعب مصارعة وأضحّك الناس.. مش عاوز أبقى مُسخة.. نفسى البلد تبص لنا شوية".
الظلام حلّ، الشوارع أعلنت عتمتها، شركة الصرف الصحي انتهت من عملها بإحدى شوارع منطقة "إمبابة"، فيما كان يسير على مهل، رجل قصير القامة، لا يتعد طوله 130 سنتيمترا، يتحسس خُطاه وطريقه، يتمعن النظر في القادمين والمارين من حوله، نظره الضعيف حال دون معرفة قسمات وجوههم، الهدوء عم المنطقة الشعبية، فيما استمر عم "السيد أبو العيد" في السير وحيدا صوب منزله، ليختفي عن الأنظار فجأة، أضحى حبيسا داخل إحدى حُفر الصرف الصحي، خارت قواه وقتما حاول الصعود، لم يظهر منه شيء، فعُمق الحفرة أطول بكثير من قامته، حتى أنقذه المارة، فيما قرر وقتها ولده الوحيد "أشرف" إبقاء والده داخل المنزل نظرا لحالته الصحية، والخروج هو إلى الشارع من أجل لقمة العيش، ليستقبل سوق العمل قزما بدلا من آخر "اشتغلت في الموكيت"، الحاصل على دبلوم معهد فني صناعي، يتذكر أولى أيامه في المعهد، اقترب منه مدرس "البرادة"، مخاطبا إياه بلهجة صارمة: "أيه اللي جابك هنا؟"، قبل أن يُجيب "أشرف": "أنا طالب في قسم التبريد والتكييف"، لم يعطه المدرس فرصة بالكاد، فقط قام بنهره وتلقينه وصلة من شريط الإحباط، حتى سخر منه في النهاية "وأنت هتطول إزاي الآلات والماكينات"، لم يعبأ الطالب بكلامه، فهرع يبحث بين أركان الورشة المدرسية على صندوق، حتى وقف عليه، أتم الاختبار المطلوب منه، فأصقل وجه المدرس انبهارا، قبل أن يُجيبه "خلاص أنت معانا في المدرسة".
بعد حصول "أشرف السيد" على شهادة دبلوم المعهد الصناعي، تقدم إلى اختبارات مطار إمبابة، مر من الامتحان مُحرزا المركز الأول، تم تعيينه، ثم فكر بالزواج من إحدى أقاربه "طويلات القامة"، ليرفض والدها، فيما عدد له العريس احتمالات أربعة لا خامس لهم "بص يا عمي فيه احتمال إني أخلّف أقزام، أو أخلف أقزام وطبيعيين، أو أخلف طبيعيين، أو ربنا ميكرمنيش بالخلفة"، بعد أن تم الزواج، رزق الله "أشرف" بمولود طبيعي، لكنه لم يخش قط حال رزقه الله بطفل قزم "دي نعمة من عند ربنا.. مقدرش أعترض على قدري.. ويكفيني أنه بيسمع ويتكلم وبيمشي على رجليه".
دقت الساعة، لتعلن انتصافها إحدى ليالي الخميس، في الوقت الذي كان يقف فيه خالد الشاعر وزوجته هناء أبو السعود على إحدى الأرصفة بشارع صلاح سالم؛ استعدادا لعبور الطريق، كانا قد انتهيا من فقرتهما الاستعراضية بإحدى الأفراح، في الوقت الذي طلب منهما مدير الفرقة الصبر حتى يوفر لهم سيارة، لكنهما رفضا، تشابكت أيديهما، استرقا النظر على مرمى بصرهما، اطمئن قلبيهما، وقررا المرور، حتى لا يتأخرا عن طفلهما الرضيع الذي تركاه مع جده، وما لبثا أن خطت أقدامهما الأسفلت، ووصلا إلى نهر الطريق، حتى اقتربت منهم سيارة، قائدها يكبس على دواسة البنزين، فيسير بسرعته القصوى، لم يرهما سائق السيارة لـ"تقزمهما" وقامتهما القصيرة، ربما سنتيمترات أكثر، قد تًمكن السائق من رؤيتهما، اصطدمت السيارة بـ"خالد" أولا، الذي لم يصبر وفارقت روحه جسده الصغير قبل أن يصل حتى إلى باب المستشفى، في الوقت الذي تم فيه حجز زوجته، لكنها ما أن سمعت خبر وفاة زوجها، حتى لحقت به هي الأخرى، رافضة أن تعيش في هذه الحياة دونه، تراكين طفلهما الرضيع يترعرع يتيما دون أب أو أم.. حكاية يتداولها الأقزام على مصائرهم المحبطة.
المادة 81 من الدستور، فتحت طاقة أمل لهم، لأول مرة تعترف الدولة المصرية منذ القدماء المصريين بالأقزام، وتذكرهم جهارا دون خجل، تؤكد المادة في نصها "تلتزم الدولة بضمان حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة والأقزام، صحيًا واقتصاديًا واجتماعيًا وثقافيًا وترفيهيًا ورياضيًا وتعليميًا، وتوفير فرص العمل لهم، مع تخصيص نسبة لهم، وتهيئة المرافق العامة والبيئة المحيطة بهم، وممارستهم لجميع الحقوق السياسية، ودمجهم مع غيرهم من المواطنين، إعمالاً لمبادئ المساواة والعدالة وتكافؤ الفرص".
7 أشهر وهو قابعُ في رحم والدته، قررت وقتها فقط أن تطمئن على الجنين، قبل ذهابها للطبيب، قررت شراء شيئا لولدها، تمنت من الله أن يضحى ابنها القادم ضابط شرطة، فهمتّ بشراء بدلة شرطة أطفالي له من إحدى شوارع وسط البلد، قبل أن يجري لها الطبيب أشعة السونار، نكس رأسه أرضًا، قبل أن يلتفت إلى "هالة" مُخاطبا إياها بنبرة لا تخلو من الثقة "الطفل ده لازم ينزل يا مدام"، اتسعت حدقتا عين الأم وشعرت بغُصة في فؤادها قبل أن تبادره بالسؤال "ينزل ليه يا دكتور؟.. ده عنده 7 أشهر"، وأوضح لها الطبيب "الجنين فيه حاجة مش طبيعية.. أنا مش عارف هيه إيه.. بس كل اللي أقدر أقولهلولك إنه لازم ينزل"، غادرت الأم العيادة، تتحسس بيداها جدار بطنها الذي يحوي بداخله على دقات قلب وليدها، فيما اتجهت صوب مشيخة الأزهر لأخذ إفادته في الأمر، حذرها من إجهاض الطفل، اطمأنت، اقترضت نفحات الصبر.. مع دقات ساعات الصباح الأولى من يوم الاثنين 17 يناير 1994، أصابتها آلام المخاض الصعبة، نصحها الطبيب "الولادة هتكون قيصري مستحيل تكون طبيعية لأن رأس المولود أكبر من الحجم الطبيعي"، استعدت، ولكنها طلبت أخيرا من الطبيب قبل تخديرها بأن تقرأ آية الكرسي، تلتها في خفوت، وقبل أن تخترق الإبرة المعدنية لحقنة التخدير جلد السيدة، حتى أراد الله لها أن تلد طفلها الثاني طبيعيا، ليخرج عبارة عن رأس كبير، وجسد صغير جدا، عرفت "هالة" من الوهلة الأولى أنه "قزم"، أطلق عليه اسم "محمد"، مرددة في هدوء "الحمد لله".[ThirdQuote]
صُراخ "محمد" زلزل أركان بيت الحاجة "هالة"، قطعة لحم حمراء، لم تتشكل ملامحه بعد، حملته على كتفيها، ضمتها نحو قلبها، توجهت به إلى مسجد السيدة زينب، جلست بجوار الضريح، تدعو الله، يجلس أمامها شيخ طاعن في السن، لحيته بيضاء كثة، مرتديا عباءة سوداء، زادت من هيبته وقارا، خاطبها في هدوء بعد أن لاحظ الطفل الذي بين يديها "الطفل ده ابنك"، فأجابته "هالة": "أيوه يا شيخ"، حدثها في نبرة هادئة تطمئن القلوب "تيقني أن كل خطوة هتنفذيها في مقابل إن ولدك ده يبقى أحسن شخص.. هتترد ليكي في الدنيا"، وكأن الله يبعث برسالة لها من خلال هذا الرجل، لتتخذ قرارها بإلحاقه بالعملية التعليمية.
يقولون عددهم 70 ألفا أو يزيدون، هكذا يضع الأقزام إحصاءاتهم، وفقا لـ"عصام شحاته" رئيس جمعية الأقزام بالإسكندرية، أما بالنسبة للبيانات الرسمية الصادرة من جهاز التعبئة والإحصاء الممثل للحكومة، فلا يمتلك أي بيانات لحصرهم، حيث يؤكد مصطفى عبد المحسن –رئيس العلاقات العامة بجهاز التعبئة والإحصاء- أن حصر الأقزام يتم من خلال التعداد السكاني السنوي الذي يُجريه الجهاز، قبل أن يوضح المشكلة التي تكمن في حصر "الأقزام وذوي الاحتياجات الخاصة"، حيث تقوم بعض الأسر بإخفاء الطفل القزم أو المُعاق مضيفا "هما شايفين إن ده عيب.. ففي بعض الناس تعترف بوجود أطفال أقزام وأسر أخرى تُخفي وجودهم"، قبل أن يُشير إلى عدم امتلاك الجهاز إحصائية مُحددة بعددهم في مصر.
طول "محمد محسن" لم يتعد الـ55 سنتيمترا، عمره أقبل على السادسة، جهزت والدته جميع أوراق التحاقه، واصطدمت بمديرة المدرسة تقول لها "مقدرش أقبل ابنك.. لازم تعملي 7 جوابات وبناءً عليها أقرر اقبله"، خطاب بأن "محمد" لا يعاني من الصرع، والتبول اللا إرادي، والاعاقة الذهنية، والأمراض الجلدية النادرة، والأمراض المعدية، بين شوارع وحواري المحروسة، همتّ السيدة تجرى لإنهاء أوراق ابنها، لكن الروتين وقف حائلا أمامها، لتذهب إلى وزير التربية والتعليم، وتنجح في مقابلته، فيطلب منها رؤية ابنها، ثم يوجهها بالذهاب إلى المركز القومي للبحوث، هناك سيقومون بعمل اختبار ذكاء له، ووفقا لنتيجته سيتم إلحاقه بالمدرسة العادية، لينجح "القزم" في الاختبار دون عناء، ويتم الموافقة على إلحاقة بالمدرسة الحكومية.
مرت المرحلة الابتدائية بسلام، وفي مرحلة الإعدادية، كانت "هالة" وابنها "محمد" يتنقلان لشراء مستلزمات البيت، وخلال ركوبهما مترو الأنفاق، رصدت سخرية مجموعة من البنات على ابنها، قبل أن تغادره، فتفاجيء "هالة" بسيدة تستوقفها تطرح عليها سؤالا "هو ده يبقى ابنك ولا جوزك؟!"، قبل أن تجيبها "ده جوزي استريحتي".. أخلاق المواطنين وعقلياتهم الصغيرة هي التي تُسفه الأمور، وتُضيع حق الأقزام في مصر، تقول "هالة".
كل 6 أشهر كان طول "محمد محسن" يزداد بمقدار 1 مليمتر، وكل عام كان يقوم بإجراء عملية لشفط المياه الزائدة في المخ، حب "محسن" الأول طغى عليه وقتما كان في الثانوية العامة، ولكنه كان حب من طرف واحد، يتذكر مضايقات زملائه من الطلبة، ويتذكر أيضا رده عليهم "ربنا يسامحكم"، يستمرون في السخرية منه "أنت أمك كسبتك في حصالة"، والمسميات التي أطلقوها عليه "بلحة، وبلية وآخرها رُزة"، ولعل لقب "رُزة" هو الأقرب إليه، ترفض والدته "هالة" العروض المقدمة من بعض الأقزام بعمل ابنها معهم في المسارح والاستعراضات، فيما يمتلك "محمد" رؤيته الخاصة "مينفعش يكون ربنا خالقني على المنظر ده.. وأنا استغل الخلقة دي عشان أضحك الناس".
في المشاجرات، يسير "محمد محسن" على مقولة "الجري نص الجدعنة"، فأمامه اختياران لا ثالث لهما "يا إما هنضرب.. أو هنضرب بردو"، ما أن أنهى المرحلة الثانوية حتى التحق بكلية التجارة جامعة القاهرة، مسافة طويلة يقطعها من مدينة 15 مايو إلى الجامعة "الطلبة هناك عقليتهم كبيرة وعارفين موضوع الأقزام ومتقبلين وجودنا"، قبل أن يتفاخر كون أساتذة الجامعة يطلقون عليه لقب "شياكة"، بالنسبة لملابس "محمد" فيقوم بشراء ملابس الشباب ثم تقصيرها حتى تتناسق مع جسده الصغير، له في السباحة قفزات مشهورة "مرة كانت من على ارتفاع 10 متر"، مُعددا الفوائد التي تعود إلى الأقزام في الدول الأوربية "هناك بيقدروا يلعبوا كرة قدم.. وفيه فريق مخصص ليهم.. وملعب مجهز يقدروا يتمرنوا عليه"، يُنهى "محمد" جامعته، قبل أن يبدأ عمله الثاني ليلا في إحدى محال السوبر ماركت الشهيرة "التقزم تقزم العقل.. مش الجسم"، يُنهي "محمد محسن" الشهير بـ"رزة" حديثه.
يعرفه والداه باسم "مصطفى"، فيما يدعوه أبناء منطقة إمبابة "دُشّ"، ينكفأ بوجهه، بل بكامل هيئته الجسمانية، على طارة الـ"توك توك"، وُلد طبيعيا، لكنه ما أن وصل إلى شهره الرابع، حتى ذهبت به والدته إلى الطبيب للاطمئنان على صحته، قال لها "يعاني من حساسية مفرطة"، وعلاج من مرض غير موجود استمر لسنوات، تسبب في خلل هرموني داخل جسده، واهتراء لأحباله الصوتية، تحول بعدها الطفل الطبيعي إلى قزم "عملت أكثر من 8 عمليات لأن صوتي راح من كتر الأدوية"، قبل أن يحمد الله على مصابه، ويُبدى أمنيته "نفسي أتوظف.. وميكونش كلام الدستور حبر على ورق".
جسده صغير، لكن عمره تجاوز الثلاثين، يظهر على وجهه وبوضوح شارب يشير إلى أنه رجل في ريعان الشباب، لكن لم يمنعه ذلك من ارتداء ملابس أطفال.. حال الأقزام في مصر يمكنك أن تلمحه في عيني "الحسين كمال"، الذي يسير بين أقدام المارة متلفتا يمينا ويسارا خوفا من أن يصطدم به أحد فيصيب جسده الصغير، منذ أكثر من ثلاث سنوات بدأت حياة "الحسين" تنحدر إلى الأسوأ؛ بسبب الإعاقة التي يعاني منها منذ أن لفظته والدته من سعة الرحم إلى ضيق الدنيا، كان الرجل الثلاثيني يعمل في "كافيه" تم افتتاحه في شارع عباس العقاد، كل العاملين فيه أقزام مثله، نشأت قصة الحب داخله، واكتملت بالزواج، ليرزقه الله بـ"كمال"، قزم آخر احتضنته الأسرة، و"كريم" الذي ولد طبيعيا وأنهى دراسته الجامعية بتفوق.
الأب –الحسين- الذي تخرج في كلية التجارة عاد عاطلا من جديد، عاود دورانه بين الشوارع والحارات، ترمقه نظرات ممتزجة مختلفة قليلا بالتعاطف وكثيرا بالاستهزاء، خاصة من الأطفال الذين يزيدون عليه طولا: "يا قصير يا قُزعة"، ثم يتطور الأمر ليصل إلى رشقه بالطوب والحجارة، ليهرول مسرعا محاولا الهروب، محتميا بمنزله وسط أسرته، آملا في أمنية واحدة علها تتحقق: "كشك أصرف بيه على عيالي".