"جوكر المهمشين".. الشر بطلا شعبيا
مشهد من فيلم الجوكر
تتعدد المحاور عند الحديث عن فيلم الإثارة النفسية "الجوكر" للمخرج تود فيليب، غير أنّ الخصوصية الأساسية التي امتلكها العمل السينمائي الأمريكي، هي قدرته على رسم معالم وسمات وحكاية مريض نفسي، مُهرّج بسيط، مغامر عبثي، لبطله "آرثر فيلك" الذي جسّده بروعة خواكين فينيكس.
ردود فعل متباينة ونقاشات حول المفاهيم والأفكار التي حملها الفيلم وأشار إليها، زامن عرض العمل في دور السينما من أسبوعه الأول، وما بين اتهامات بالتحريض على العنف وإثارة الشعب، وإشادات بعبقريته ونوعيته المختلفة عن السينما المقتبسة من القصص المصورة، كان ذلك كافيًا لإثارة الشغف لمشاهدته.
ولعل محورية الفيلم وبراعته، انطلقت من إتقان وبراعة خواكين فينيكس الذي يستعرض أحداث العمل كاملة من منظوره ورؤيته، أخذ منحى مختلفًا عن النسخ السينمائية من "الجوكر" عام 1989 الذي جسّده جاك نيكلسون، وعام 2008 الذي أداه هيث ليدجر، في خط درامي وحيد، من البداية حين كان يجلس أمام مرآة داخل إحدى غرف كواليس العروض البهلوانية، ويضع أصابع يده في ركني فمه ويسحبه للأعلى راسمًا ابتسامة ثم لأسفل راسما تكشيرة، وحتى النهاية، حين ينتشر في المدينة حشد من الجماهير الغاضبة المقنعة بأقنعة "جوكر" الكوميدية، ويقف على غطاء محرك سيارة محطمة ويبتسم كأنه يهنئ نفسه.
لا ينطوي الفيلم المستوحى من عالم الكوميكس على أفلام الكوميكس التقليدية، إنما استنسخ ثيمة مختلفة عن أفلام القصص المصورة ووجه جديد لم نألفه للجوكر، ويرجع ذلك غالبا إلى غياب القصة الحقيقية للجوكر ما خلق مساحة كافية لرسم شخصية بدأت بـ"إنسان بسيط" وانتهت بـ"قاتل سيكوباتي".
التغيّر التدرجي البطيء للشخصية من "آرثر" لـ"جوكر" التي في الأصل تعاني من درجة من درجات الاضطراب العقلي، كان فريدًا ومتقنًا للغاية بكل ما مرّ به من منعطفات مهمة خلال أحداث العمل، وكأن شخصيته المتضاربة سواء في مشاعر الحزن المختنق أو الكراهية والنقم التي تنامت داخله، إضافة إلى مشاعر الحلم وبلوغ الأمل، تكوّنت كنتاج واضح من اللاوعي الجمعي لمدينة "جوثام" (المتخيلة) المضطربة والتي تعاني الأمراض الاجتماعية.
كان "آرثر" صنيع مدينة قبيحة حقًا ومجتمع مفكك فاسد، مُحاط بأكياس القمامة ومُطارد بالجرذان الكبيرة، مجتمع لا يعرف سوى شريحتي الغناء الفاحش بكل ما فيه من وقاحة، والفقر المدقع بما ما يحتويه من حماقة، تتوافق شخصيته الشريرة بطريقة ثنائية البعد مع مجتمعه.
وجهه شاحب ذو أقنعة هزلية ومأسوية، ضحكته باكية لا تفرق إن كانت تحمل سعادة أم أنينًا، جسمه نحيف للغاية لدرجة أنه عندما ينحني فإن عموده الفقري وكتفيه يخرجان من الجلد، هيئته تجعلك تقع في حيرة؛ هل هو ملاك سقط على أهل المدينة من أجل الخلاص، أم هيكل عظمي يجاهد في منتصف طريقه إلى القبر.
"آرثر" يعمل مهرجًا كوميديًا يقف في الشارع بهيئة بهلوانية ذات أنف حمراء وشعر أخضر مستعار، هدفه إسعاد الناس وحلمه أن يصبح كوميدانًا مشهورًا، لكن آماله لم ترتقِ أبدًا لما يروق، لا هو يملك حسًا فكاهيًا، ولا ظروف بيئته ومجتعمه تسمح له بذلك. لم يفارقه حلمه في الشهرة والأضواء غير مكترثًا بمرض التأثير البصلي الكاذب الذي أصابه ويجعله ينفجر ضحكًا دون أي سبب ودون سابق إنذار، ما يجعل من الصعب الوقوف على خشبة المسرح وإلقاء النكات.
وقبل أن يسخر منه مذيعه الساخر المفضل مواري فرانكلين، في مقطع ببرنامجه الأشهر على التليفزيون، حين قدّم "آرثر" مقطعًا كوميديًا على أحد المسارح وتعثر في جمع جملاته الأولى بسبب مرضه، كان يتخيل أنه نجم لامع يجلس إلى جوار مذيعه المُفضل أمام شاشة التليفزيون والجماهير تصقف له حين يلقي النكات، في إشارة إلى أنه كان مواري فرانكلين مثلًا أعلى يرى فيه الخلاص من إحساسه بالدونية وانعدام الأهمية.
تتصاعد تحولات الشخصية المضطربة نفسيًا بشكل تدريجي، بعدما تعرض لـ"ضربة خلاط": قهر أسري أدى إلى اضطرابه نفسيًا، لا يعرف من أبوه، ويعيش مع أمه الذي يكتشف لاحقا أنها تبنته ومارست مرضها النفسي عليه بالتعذيب، وظلم مجتمعي أفضى إلى كونه فريسة ضعيفة أمام ضباع الشارع، وإغلاق المصحة النفسية المتنفس الوحيد من أوجاعه وأنينه، والتهكم والسخرية عليه عبر شاشات التليفزيون، ومسوخ أهل النفوذ من الإعلام ورجال الأعمال في صورة طبقية صارخة.
كل هذا كان كفيلًا بأن يرى حياته عدمية لا فائدة ولا قيمة لها وخالية من أي معنى حقيقي، وعندما يعطيه أحد زملائه في العمل مسدسًا ليدافع عن نفسه، يتحول معها لعنف مضاد للعنف الذي تعرض له، ولأنه واحد من بين كثيرين يشبهونه، استجدى تعاطف أهل المدينة من أبناء الهامش.
يخاطب "جوكر" اللاوعي الجماعي لدى المشاهدين ويُسلط الضوء على التنفيس عن غضب مكبوت، مجبور عليه أصحابه الذي يعيشون بقوة الدفع داخل مجتمعهم.
يتيح فرصة عظيمة لما يحلم به كثيرون في أحلام يقظتهم أو ما يكمن في أعماق بعضهم، في التخلص من أشخاص في حقيقة الأمر هم مزعجين لغاية الأذى.
يمثل "الجوكر" الذي لا يمتلك أي قدرات خارقة أو مشاهد سينمائية غير حقيقية، العقل الباطني للمشاهد الذي يريد العيش بدون قيود تكبت أحلامه وتُقيّد أفكاره وتقتل إنسانيته، حين يبلغ ذروته في الفوضى والحرائق والشعور بالانتقام العشوائي من الأغنياء عندما رددوا هتافات "Kill the rich"، وينتشي "جوكر" مبتسمًا مع نهاية الفيلم.