أطفال في سوق العمل: إيه اللي رماك على الشغل؟ أكل العيش
طفل يعمل فى إحدى ورش الزيوت
«ضيق الحال» والبحث عن أبواب رزق مفتوحة وعائد أفضل يلبى رغباتهم واحتياجات أسرهم يدفعهم إلى الهجرة من مواطنهم الأصلية إلى المدن الكبيرة بحثاً عن فرصة أفضل للحياة، كثيرون غادروا مسقط رأسهم سعياً وراء الرزق والبعض منهم تخلى عن أحلامه التى كان يرسمها فى طفولته بخصوص الدراسة والعمل بعد أن دارت عجلة الحياة عليه وأجبرته الظروف على تغيير نمط حياته وإجراء مناورة تكتيكية لضمان البقاء وسط عالم يتكالب فيه الجميع ويتصارعون بحثاً عن المال حتى يتمكنوا من الإنفاق على أنفسهم، وأحياناً أسرهم، رغم ما يتعرضون له من معاملة قاسية وإهانة فى بعض الأحيان، لكنهم مجبرون على تحمل صعوبات الحياة بحثاً عن مستقبل أفضل.
"كيرلس": أبواب الرزق في القاهرة مفتوحة
داخل سوبر ماركت بشارع سليمان جوهر فى الدقى، وقف كيرلس غطاس، 16 سنة، يُرتب بعض السلع على الأرفف المخصصة لها، بعد أن نزح من محافظة المنيا للقاهرة منذ عامين بحثاً عن أبواب الرزق المفتوحة فى العاصمة بعدما ضاق الحال به فى قريته، للإنفاق على ووالدته وأشقائه، رغم أنه أصغرهم، وبادرنا بالقول: «الشغل عندنا محدود ومفيش مكسب، لكن القاهرة المجال فيها مفتوح لأى حد عايز يتعلم ويشتغل، كنت باجى هنا فى الإجازة أشتغل وأرجع باللى كسبته لأهلى لكن دلوقتى استقريت هنا»، مشيراً إلى أنه اضطر إلى تحويل أوراقه إلى إحدى مدارس التعليم الفنى فى المنيب حتى يتمكن من استكمال دراسته وفى الوقت نفسه الاستمرار فى العمل، وتابع: «ماكنتش حابب أسيب التعليم، كنت فى بلدنا بروح المدرسة وأرجع أشتغل، ولما جيت القاهرة حولت هنا بس مجموعى ماجبش ثانوى عام، فدخلت مدرسة صنايع عشان آخد شهادة».
«كيرلس» تنقل، منذ مجيئه إلى القاهرة، بين الكثير من أماكن العمل وامتهن أكثر من حرفة فى الورش والمحلات، وتحمّل صعوبة العمل وقسوة أصحابه فى بعض الأحيان حتى يوفر لنفسه ولأسرته مصاريفهم الخاصة، وقال: «اشتغلت فى ورشة نجارة فترة بس معاملة صاحبها كانت صعبة واضطريت أسيبها بعد شهرين، وجيت بعدها السوق هنا فى سليمان جوهر اشتغلت مع بائع خضراوات كنت بوصل الأكل فيها للناس، وقعدت معاه حوالى سنة، وبعدها حبيت أغير شغلى فجيت هنا فى السوبر ماركت، أكل العيش هو السبب الوحيد الذى دفعنى إلى ترك الصعيد رغم حبى الشديد له، لكنى بروح فى المناسبات هناك، لأن عيلتى وصحابى كلهم موجودين فى البلد، وهناك فيه حاجات حلوة كتير، وكل الناس عارفانى، لكن هنا أنا فى حالى، ما بعملش حاجة غير إنى بشتغل».
أبانوب فتحى، 18 سنة، طالب جامعى، بدأ العمل منذ أن بلغ عامه الحادى عشر، حتى يتمكن من الإنفاق على نفسه وتوفير مصروفاته الدراسية والمبالغ التى يحتاجها لدروسه، ففى المرحلة الإعدادية كان يعمل فى ورشة صغيرة قريبة من منزله لأكثر من 7 ساعات يومياً مقابل 50 جنيهاً، وظل يعمل فيها لمدة عامين قبل أن يخبره صديقه عن وجود فرصة عمل فى أحد المصانع الخاصة فى 6 أكتوبر، لكنه لم يستمر فيها كثيراً بسبب سوء معاملة مديره له، وعن هذه التجربة قال: «ماكانش بيعلمنى ولو غلطت فى أى حاجة ولو بسيطة كان بيضايقنى فاضطريت إنى أسيب الشغلانة رغم إنى محتاجلها عشان كرامتى».
أنهى «أبانوب» المرحلة الثانوية، وبدأ فى البحث عن وظيفة براتب ثابت يمكنه من الإنفاق على نفسه وأسرته، وظل يتنقل ما بين أكثر من وظيفة حتى استقر به الحال فى العمل كمساعد مساحة فى إحدى الشركات، وعن هذه المرحلة قال: «مفيش مكان كان بيقبلنى بسبب ظروف الدراسة، كنت بدور على شغل بالليل، لأنى مش عايز أهمل دراستى، وكنت بقعد فترة فى كل مكان وبعد كده أسيبه لما يتخانقوا معايا».
"مديحة": ببيع خضار ونفسى أكون زى بنات سنى
فى منطقة السيدة زينب يذهب أقران مديحة محمد، ابنة الـ14 عاماً، إلى المدرسة بينما تجلس هى أمام فرشة خضراوات، ممسكة بيديها كيساً ممتلئاً عن آخره بأنواع مختلفة من الخضراوات اشترته منها إحدى السيدات وتركته لها لتقوم بتنظيفه، «مديحة» اضطرت إلى ترك المدرسة بعدما أنهت المرحلة الابتدائية حتى تتمكن من الإنفاق على والدتها التى أصيبت بالسكر، وبالحديث معها قالت: «دى فرشة أمى بس هى تعبت ومابقتش تقدر تقعد فى الشارع تانى أو تتعامل مع الزباين، فماكانش قدامى حل غير إنى أنزل مكانها وأسيب المدرسة».
تجلس «مديحة» على فرشة الخضار منذ الـ9 صباحاً وحتى الـ5 مساءً لبيع أكبر كمية ممكنة من الخضراوات، يوفر مكسبها منها قوت يومها وعلاج والدتها بجانب مصاريف شقيقتها الأصغر، وتابعت: «إحنا معندناش مصدر دخل غير اللى بنكسبه من السوق، لو يوم ماقدرتش أنزل ماعرفش أجيب أكل ليهم، أنا بقيت شايلة مسئوليتهم، بطلع الفجر أروح أشترى من تجار الجملة فى السوق وأرجع هنا أبيعها للزباين».
وأنهت «مديحة» حديثها بجملة مؤثرة قالت فيها: «نفسى أكون زى باقى البنات اللى فى سنى أروح المدرسة بس للأسف ظروفى ماسمحتش إنى أعمل ده، وبقيت بدل ما أروح دروسى آجى السوق للخناق مع الباعة ومع الناس اللى بتفضل تفاصل معايا فى ربع جنيه وما تعرفش إنى فى عرض القرش».
القانون لا يحمى الصغار: عنف ومخدرات وتسهيل أعمال مخلة بالآداب
انتهاك جسدى، وتعنيف لفظى، وقد يصل الأمر للاعتداء الجنسى.. أمور قد يخضع لها الأطفال بأماكن العمل، ركوعاً للمال، وحاجتهم للعمل، لتنتهك طفولتهم، ويصبحوا عُرضة للاتجار بهم فى سبيل كسب لقمة العيش.
"مصيلحى": التجاوزات فى مكان العمل تحولهم إلى مدمنين
يقول أحمد مصيلحى، المحامى بالنقض ورئيس شبكة الدفاع عن الأطفال، إنه رغم منع القانون والدستور عمالة الأطفال لمن هم أقل من 15 عاماً، وفقاً للمادة (80) من الدستور المصرى، التى تكفل للطفل مجموعة من الحقوق الخاصة، إلا أن هناك العديد من أصحاب العمل وأهالى الأطفال يتجاهلون الأمر ويشجعون عمالة الأطفال بما فيها من تجاوزات ضد الطفولة، ويوضح لـ«الوطن» العديد من التجاوزات التى تنتهك الطفولة من قِبل أصحاب العمل، والتى تبدأ بالتعنيف والإيذاء اللفظى، مروراً بالتعدى بالضرب، أو الاعتداء الجنسى: «هناك العديد من عمالة الأطفال يتم انتهاكهم والتعدى عليهم جنسياً فى أماكن العمل، وقد تصل التجاوزات ضد الأطفال إلى تناولهم المواد المخدرة وتحولهم لمدمنين، ما يقضى على مستقبلهم للأبد»، وأشار إلى أنه فى النهاية قد تصل بعض التجاوزات إلى استغلال هؤلاء الأطفال فى أعمال غير مشروعة كنقل المواد المخدرة أو تسهيل «الدعارة»: «بيفكروا إن محدش هيشك فى طفل إنه يعمل الجرايم دى، فبيستغلوا سنهم وشكلهم، وحاجتهم للفلوس إنهم يخلقوا منهم عصابة».
ورصد رئيس شبكة الدفاع عن الأطفال بعض الأمور التى تعد استغلالاً لحياة الأطفال، مثل المتاجرة بهم: «بعض الأعمال بعينها تمثل استغلالاً صريحاً للأطفال والمتاجرة بأرواحهم وفقاً لمبالغ زهيدة، على رأسها العمل بالمحاجر أو المناجم، قد يؤثر بشكل كبير على صحتهم من خلال أمراض الجهاز التنفسى، التى قد تقضى عليهم فى النهاية»، وتابع: «كذلك شغل البنات الصغيرة كخادمات المنازل، فضلاً عن عمل أطفال الريف بالمزارع أو كنس الشوارع ونقل الطوب وأعمال البناء»، واختتم بقوله: «كل الانتهاكات والتجاوزات دى، هتعمل خلل فى المجتمع لأنها هتخلق مواطن جاهل، غير سليم أخلاقياً، وغير مسئول».
وعن التصدى لتلك التجاوزات وحماية الأطفال، قال «مصيلحى»: «للأسف القانون مش بيتطبق، المفروض إن صاحب العمل اللى بيشغل طفل يتسجن 5 سنين».
وقال محمود البدوى، المحامى بالنقض ورئيس الجمعية المصرية لمساعدة الأحداث وحقوق الإنسان، إن ما يحدث للأطفال فى سوق العمل يعد خرقاً للقوانين والدستور، وأوضح أن التجاوزات ضد هؤلاء الأبرياء أبرزها استغلالهم للعمل ساعات أطول دون مراعاة سنهم أو صحتهم، ويكون ذلك دون مقابل مادى أو تأمين صحى، فضلاً عن الإيذاء المادى والمعنوى، وأضاف لـ«الوطن»: «الأسرة هى الشريك الأول لما يحدث لهؤلاء الأطفال، ولا بد من معاقبة أى أسرة تتهاون فى حق أبنائها أو تسكت عن تجاوزات أصحاب العمل من أجل بضعة جنيهات: «بيبقوا مفهمين العيال لو جت حملة تفتيش يستخبوا، ويضيعوا حقهم عشان خايفين، أو محتاجين فلوس».
وعن مواجهة تلك التجاوزات التى تتم بحق الأطفال، أكد أنه لا بد من تطبيق القوانين والأحكام الرادعة لمن يتسبب فى هذه التجاوزات، فضلاً عن تدشين الحملات التوعوية للأهالى لحثهم على الخطر الذى ينال أطفالهم ومستقبلهم.
منطق المتسربين من التعليم: همّا اللي خدوا شهادات عملوا إيه!
طريقة مختلفة لجأ إليها حبيب حفظى يستطيع من خلالها تكوين مكانة لنفسه وسط رفاقه أو حتى المجتمع، ففكر فى ترك المدرسة، فى الصف الثالث الابتدائى، فبات البعد الاقتصادى هو الملاذ الوحيد لتحقيق حلمه فى هذه المكانة: «كنت عايز أوصل لهدف فى حياتى بسرعة من بعد ما سبت المدرسة»، فاختلفت طريقة تفكير «حبيب» من التعليم إلى التفكير فى العمل: «أصحابى كانوا راسمين على تعليم وشهادة لذلك غيرت طريقة تفكيرى عنهم فبدأت أفكر فى الشغل ولو كنت كملت تعليم كنت هبدأ حياتى متأخر». عدد كبير من الذين حصلوا على شهادات جامعية فى تخصصات مختلفة يعملون فى مهنة «تركيب السيراميك» حسب ما رواه «حبيب» لـ«الوطن»، موضحاً أن تركه للتعليم لم يؤثر عليه كثيراً فى الحصول على فرصة عمل: «كده كده اللى معاهم شهادات شغالين معايا».
"حبيب": ندمان على تركى للتعليم.. بس بحاول أعوّض الفرصة فى أولادى
يرى «حبيب» أنه لو استكمل مشواره فى التعليم لم يحقق أهدافه فى الحياة والتى تمثلت فى تكوين أسرة، وتعليم «صنعة» معينة وهى فى الغالب «تركيب السيراميك»، معبراً عن أسفه الشديد لتركه التعليم: «لو رجع بيا الزمن ماكنتش سبت المدرسة».
أصيبت مريم أشرف فى بداية المرحلة الابتدائية بـ«كهرباء زائدة فى المخ»، وبعد خضوعها لكثير من الجلسات الطبية إلا أن نسبة الحصول على شفاء تام من المرض لم تصل لـ30%، حسب ما روته «مريم» لـ«الوطن»، مؤكدة: «لقيت موضوع إنى أروح المدرسة ده صعب عليا جداً مع العلم إنه كان نفسى أكمل فى التعليم ويكون ليا نصيب فى الشهادة زى أصحابى».
لم تكن الحالة الاقتصادية التى يمر بها البيت فى صالح حصول رومانى رؤوف، 35 عاماً، على فرصة تعليم جيد، فبدأ البحث عن فرصة عمل فى مختلف القطاعات، موضحاً أنه اعتقد أن الأمور تسير على ما رسمه فى مخيلته فى المستقبل «بيت وأسرة».
نوع من الأسف الشديد ينتاب «رؤوف» من وقت لآخر لتركه التعليم: «كنت أتمنى يرجع بيا الزمن وأكمل تعليم وأتغلب على الظروف دى»، مؤكداً أن فكرة الحصول على شهادة جامعية أو حتى ابتدائية ما زال لها رونق واضح فى المجتمع المصرى.
جهود كبيرة يبذلها «رؤوف» لتوفير بيئة تعليمية جيدة لأبنائه، لتصحيح خطئه الأول فى ترك التعليم: «بحاول أعلم أولادى بقدر الإمكان»، مؤكداً أنه علّم أبناءه حُب العلم والتعليم منذ صغرهم، قائلاً: «الشهادة بتفرق كتير وبنتى الكبيرة اتخرجت من كلية تربية». وبرر أكاديميون فكرة التسرب من التعليم لأسباب مختلفة كالوضع الاقتصادى أو عدم الرغبة فى التعليم، مؤكدين أن الإنسان المتعلم لم يفد نفسه فقط بل يفيد أمة بأكملها.
يقول الدكتور عنتر عبدالعال، أستاذ بكلية التربية جامعة سوهاج، إن هناك مجموعة من العوامل التى أدت إلى ظاهرة التسرب من التعليم، أولها: العامل الاقتصادى كضعف الإمكانيات المادية وعدم قدرة الأسرة على تحمل الأعباء المادية للتدريس، من مستلزمات مدرسية وكتب ومصروفات شخصية، ما يدفع الأسرة إلى الاحتياج الشديد لعمل الطفل وليس لتعليمه، موضحاً أن العامل الثانى يتمثل فى الوضع الاجتماعى للأسرة، فالطلاق سبب رئيسى فى تسرب الأطفال من التعليم لعدم وجود من يهتم بهم، أو وفاة أحد الوالدين.