يحتفل العالم اليوم بعيد الحب، ودائمًا ما نبحث عن قصص الحب في أوروبا وأمريكا لنتعلم منها الرومانسية مثل روميو وجوليت، ولكن عندما ندقق البحث سنجد أن في السيرة الإسلامية أروع القصص الرومانسية التي يغفل عنها الكثيرون، ومنها قصة حب زينب بنت رسول الله، وأبي العاص بن الربيع.
لم تكن زينب رضي الله عنها، جاوزت العاشرة من عمرها حين رنتْ إليها عيون الهاشميِّين، وتنافست بيوتات مكة على الظفر بها عروسًا لمن يختاره أبواها من كرام الفتية القرشيِّين، وكان الذي ظفر بها أبو العاص بن الربيع رضي الله عنه، ابن خالتها هالة بنت خويلد، وهو من أشراف مكة، وسط غبط من شباب قريش حين وافق النبي على زواج بن ربيع من زينب، وكان ذلك قبل مهبط الوحي على رسول الله، صلى الله عليه وسلم.
ووفقًا لصحيح البخاري رقم (1284) 2/79، وصحيح أبي داود (2692)، أنه عندما أشرقت الأرض بنور ربها وبعث النبي صلى الله عليه وسلم، أعلنت قريش الحرب عليه، مستهدفة، من بين ما استهدفت، عاطفة الأبوة في قلبه: "ردوا عليه بناته" قالت قريش.
ذهب عتبة زوج السيدة أم كلثوم ابنة الرسول، إلى النبي صلى الله عليه وسلم قائلا: "كفرت بدينك وفارقت ابنتك، لا تحبني ولا أحبك"، ثم دنا من الرسول عليه السلام وشده من قميصه الشريف فمزقه، أما أخوه عتيبة فقد طلق السيدة رقية عندما قالت له أمه: "طلق ابنة محمد ونزوجك أي امرأة من قريش شئت".
في ذلك الوقت كان بن ربيع زوج السيدة زينب في رحلة تجارة بالشام، وانتظرت السيدة زينب عودة زوجها الغائب مع تجارته لتخبره بإسلامها، وعندما أبلغته رد غاضبًا "لن أومن بأبيك ولا برسالته"، ثم خرج من بيته لا يلوي على شيء، حيث خاف على صورته أمام الناس أن يقولوا إنه هجر دين آبائه لإرضاء زوجته.
كان بن ربيع مشوشا فيما يتعلق بدينه، أما دنياه فقد أعلنها صريحة أمام سادة قريش: "لا والله لا أفارق صاحبتي ولا يعوضني عنها أن لي أفضل امرأة في قريش".
وبعد أن هدأ قليلًا عاد إلى بيته فوجد ابنه وابنته أمامه فحملهما على كتفيه واقترب من حبيبته زينب: "لن ينال مما بيننا يا زينب أن تكوني على دينك وأثبت على ديني". فأجابته: "قليلاً يا صاحبي، لستُ حلاً لك، وأنت على ذلك الدين، فأسلمني إلى أبي أو أسلم معي.. لن تكون زينب لك بعد اليوم إلا أن تؤمن بما آمنت"، وهو ما حدث بالفعل حيث خاصمها بن ربيع، وزاد قلب النبي شجنا حين جاءته ابنته زينب وطلبت منه أن تبقى مع أولادها لعل يهدي الله زوجها بالإسلام، فوافق رسول الله، وقال لها: "ابق مع زوجك وأولادك".
دقت طبول الحرب، وخرجت قريش في جيش مخيف لمواجهة رسول الله، واعتصر الألم ابن العاص وهو يودع ابنته وولده، وأكثر ما أحزنه هو خصومة زوجته وحبيبته زينب. أغمض عينيه وتنهد في حسرة ثم ركب فرسه والتحق بمقدمة جيش قريش.
وقفت السيدة زينب محتضنة ابنتها الصغيرة أمام باب دارها بمكة تشاهد زوجها المُشرك متجها لمحاربة أبيها النبي. احتضنت ابنتها وقالت لها: "لن تطلع علينا الشمس يا ابنتي في مثل يومنا هذا إلا وإحدانا يتيمة".
دخلت عليها عمتها عاتكة تخبرها بانتصار أبيها في بدر فسجدت شكرا لله، ثم سألت عمتها: وماذا فعل زوجي؟، أطرقت عاتكة رأسها في حزن حتى كاد قلب زينب ينفطر: "لم يقتل زوجك ولكن تم أسره".
لم تكن عائلة أبو العاص ينقصها المال لتفتدي به ابنها الأسير، لكن زينب اختارت أن تفك أسر زوجها بطريقتها.
جلس شقيق بن العاص بين يدى رسول الله قائلا: "بعثتني زينب بهذا فداء لزوجها"، ثم أخرج صرة ووضعها بين يدى النبي، فتح سيدنا النبي الصرة فوجد قلادة خديجة التي أهدتها لزينب في عرسها، فخفق قلبه وارتعش.
رأى النبي أن ابنته بهذه القلادة تذكره بالحب الذى كان بينه وبين خديجة، حيث كانت تذكره بأن ابن العاص زوج وحبيب وابن خالة، كانت تُذكره بأنه ليس من طرف زينب فقط ولكن من طرف خديجة حبيبته أيضا، فسالت دموع أصحاب الرسول من جلال الموقف وروعته، وصمت قبل أن يقول لأصحابه: "إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها وتردوا عليها مالها فافعلوا".
أعطاه النبي العقد، ثم قال له: "قل لزينب لا تفرطي في عقد خديجة"، ثم قال عليه السلام: "يا أبا العاص هل لك أن أساررك؟" ثم تنحى جانبا وقال له: "يا أبا العاص إن الله أمرني ﺃن أفرق بين مسلمة وكافر، فهلا رددت إلي ابنتي؟" فقال: نعم. ثم استدار عائدا إلى مكة وهو لا يدري كيف سيتسع قلبه الصغير لأحزان في رحابة الأفق.
خرجت زينب تستقبل أبا العاص على أبواب مكة، لم تكن تدرك أن الحب الذى كَتب لزوجها حياة جديدة كان هو نفسه الثمن، "عودي إلى أبيكِ يا زينب"، وكادت العبارة أن تخنقه، فما استطاع أن يتمالك نفسه، وطلب من أخيه كنانة بن الربيع أن يصحبها إلى طرف البادية خارج مكة حتى ينتظر زيد بن حارثة ليصحبها إلى رسول الله.
ظلت زينب ترفض الخطاب لمدة 6 سنوات على أمل أن يعود إليها زوجها، وحبيبها وأبو ولديها وابن خالتها، وفي ليلة، طرق بابها قبيل أذان الفجر فسألته حين رأته بلهفة: "أجئت مسلما؟" قال: "بل جئت هاربا"، سألته وبصيص أمل يلوح في الأفق: "فهل لك أن تسلم؟"، فرفض فقالت بصوت متحسر وحزين: "لا تخف مرحبا بابن الخالة. مرحبا بأبي علي وأمامة".
وحكى لها أبو العاص أنه كان يقود قافلة بتجارة قريش إلى الشام، وعند عودته التقته سرية من المسلمين فأصابوا كل من معهم وهرب هو منهم وتسلل حتى وصل إلى خيمتها. لم يكن يدرك أن روحها ارتدت إليها وهي تراه يدخل عليها.
وبينما سيدنا النبي يؤم المسلمين في صلاة الفجر، وقبل أن ينهي صلاته سمع صوتا يقول: "أيها الناس إني أُجرت أبا العاص". كان يعرف أنه صوت زينب، فقال للمصلين: "أما والذي نفس محمد بيده.. ما علمت بشيء من ذلك حتى سمعت ما سمعتم"، وصمت.
فقالت زينب: "يا رسول الله إنّ أبا العاص إن بعُد فابن الخالة وإنْ قرب فأبو الولد وقد أجرته يا رسول الله".
فقال النبي: "يا أيها الناس إنّ هذا الرجل ما ذممته صهرًا. وإنّ هذا الرجل حدثني فصدقني ووعدني فوفّى لي. فإن قبلتم أن تردوا إليه ماله وأن تتركوه يعود إلى بلده، فهذا أحب إلي. وإنُ أبيتم فالأمر إليكم والحق لكم ولا ألومكم عليه".
فقال الناس: بل نعطه ماله يا رسول الله.
فقال النبي: قد أجرنا من أجرتِ يا زينب.
ثم ذهب إليها عند بيتها، وقال لها: "يا زينب أكرمي مثواه فإنّه ابن خالتك وإنّه أبو العيال، ولكن لا يقربنك، فإنّه لا يحل لك".
فقالت: نعم يا رسول الله.
نظرت زينب إلى أبي العاص قائلة: "فيم هذا العذاب؟ يا أبا العاص أهان عليك فراقنا. هل لك إلى أنْ تُسْلم وتبقى معنا".
فقال: "حتى يقضى الله فينا أمره"، فقالت: "يرحمنا الله".
عاد أبي العاص ووقف يوزع أموال التجارة الرابحة على أصحابها، وبعد أن فرغ قال: "يا معشر قريش هل بقي لأحد منكم عندي مال لم يأخذه؟". فقالوا: "لا.. جزاك الله خيرا فقد وجدناك وفيا كريما".
فنظر إليهم ورفع صوته قائلا: إذن فأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وعاد إلى المدينة ودخلها فجرًا وتوجه إلى النبي، وقال: "يا رسول الله أجرتني بالأمس واليوم جئت أقول أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله"، ثم أضاف برقة: "يا رسول الله هل تأذن لي أنْ أراجع زينب؟".
فأخذه النبي وقال: تعال معي.
ووقف على بيت زينب وطرق الباب، وقال: "يا زينب إنّ ابن خالتك جاء لي اليوم يستأذنني أنْ يراجعك فهل تقبلين؟"، فاحمر وجهها وابتسمت.
عاش أبو العاص مع زينب عاما بعد أن زوجه النبي إياها من جديد، ثم ماتت زينب رضي الله عنها وأرضاها، فبكاها بكاءً شديدًا حتى رأى الناس رسول الله يمسح عليه ويهون عليه. فيقول له: "والله يا رسول الله ما عدت أطيق الدنيا بغير زينب"، فمات بعد عام من موتها.
تعليقات الفيسبوك