تدمير 30 ورشة وسكان بلا مأوى.. حريق "الدرب الأحمر": أحزان لا تنتهى
رضا سيد و ولاء محمد بلا مأوى عقب التهام الحريق لمنازلهم
خوف ذعر قلق حزن.. ملخص شديد لما بدا عليه حال سكان منطقة الدرب الأحمر، عقب حريق هائل في عدد من المحال التجارية بالمنطقة، وورش صنع الأحذية، جعل المنطقة تعيش في حالة طوارئ حتى ساعات الصباح الأولى أمس.
الحريق الذي استمر 5 ساعات متواصلة، ونجحت قوات الحماية المدنية في السيطرة عليه، بأكثر من 10 سيارات إطفاء، تسبب في توقف حركة السير بالكامل من مدخل الشارع عند مديرية أمن القاهرة، وصولا بمنطقة الغورية، وبوابة المتولي، وحتى ساحة خاير بك الأثرية، إلى جانب انتشار البرك المائية الصغيرة الناتج عن عمليات الإطفاء والأخشاب المحترقة المتناثرة في الأرجاء، والتي تابعها السكان بقلب مكلوم، وأرواح حائرة حول المستقبل الغامض الذى ينتظر منطقتهم.
عصام عبدالمنعم 40 عاما، جلس على الأرض وهو يحاول إخفاء دموعه، بينما تجلس زوجته بجانبه، وتربت بيد حانية على ظهره، محاولة تخفيف مصابه، فقد التهمت النار ورشته لصناعة الأحذية، بكل البضاعة الجديدة التي اشتراها: "نعمل إيه بيوتنا تخربت خلاص كده، احنا كنا قاعدين لا بينا ولا علينا، وفجأة صويت في الشارع، ودخان من حوالينا، ومدرتش بنفسي، إلا وأنا بجري ومعايا مراتي، وابني الصغير، عشان الحريقة متاكلناش إحنا كمان".
أكثر من 30 ورشة لصناعة الأحذية تم تدميرها عن بكرة أبيها، بحسب "عصام"، ورؤوس أموال، بعضها يتخطى النصف مليون جنيه: "ورشة الجذم بدأت فيها من أكتر من 11 سنة، وهي كل ما أملك في الدنيا، والبضاعة اللي كانت فيها، تعدي الـ50 ألف، وفي ناس كان عندهم بضاعة بنص مليون، وفي بـ30 و40 ألف جنيه، كل ده النار دمرته، ومحدش عارف يعمل حاجة، ولا يتصرف إزاي".
أول صور من "حريق الدرب الأحمر".. ومصدر أمني: لا مصابين
بينما يروى عصام تفاصيل الحريق، بدت الرعشة واضحة على يد زوجته "رضا سيد" 34 عاما، لتبدأ الحديث بصوت ملئ بالشجن، على الرغم من محاولاتها التظاهر بالقوة مراعاة لمشاعر زوجها، وهي تشير إلى أن سبب الرعشة هو ابنها الصغير الذي كادت تلتهمه النار: "أنا بساعد جوزي في الشغل في الورشة، أصل في رقبتنا 6 عيال هنأكلهم منين ولا نشربهم أزاي، لو مشتغلتش معاه، ولما قالوا في حريق وشوفناه بعينينا جرينا علشان ننزل، بس الصدمة، أن ابنى الصغير، دخل يلعب في مكان اشتعال الحريق، والأزاز والخشب وقع حواليه، واضطريت أعدي وسط كل ده، علشان ألحق ضنايا قبل ما يروح في الوبا".
الحزن الذي تسلل إلى وجوه أصحاب الورش مما أصابهم نتيجة الحريق، ظهر أيضا على وجوه الصنايعية الذين حاولوا بكل قوة ممكنة السيطرة على الحريق في البداية مثل أشرف سعيد الذى جلس بجانب عصام يستمع إلى حديثه، صامتا، فقط يهز رأسه، كدليل على تأييده، ثم فجأة كسر هذا الصمت، بصوت هادر: " الفكرة إننا كصنايعية، شغالين في المجال أكتر من 35 سنة مش عارفين هنعمل إيه، أنا مثلا كنت بنام في الورشة كل يوم بالليل، منها توفير في الفلوس في المواصلات، وفي نفس الوقت متابعة الشغل، والإجار فيه، إنما دلوقتي الواحد ميملكش غير الدعاء".
لجنة هندسية لمعاينة عقار حريق الدرب الأحمر
إلى جانب الورش التي احترقت، كان هناك الكثير من الشقق الصفيح والخشب، التي لم يدري أصحابها، هل البكاء هو ما يجب أن يكون عليه حالهم، أم الراحة من أجل اهتمام المجتمع بحالهم اخيرا، منهم ولاء محمد تلك السيدة الأربعينية التي جلست بجلباب البيت على الرصيف في الشارع، بينما تحيط بها برك المياه الناتجة عن أطفاء الحريق، تهدهد في رضيعتها "ساجدة" التي لم يتجاوز عمرها 11 شهرا، وتشد في أبنائها الثلاثة الآخرين من أجل الالتفاف حولها، تمر دقائق ثم تبدأ في الصراخ حول طلب مأوى لها وأبنائها: "احنا كنا أكتر من 11 عيلة ساكنين في عشش صفيح وخشب، جنب ورش الجذمجية، العشة عبارة عن أوضة كبيرة، وكلنا عندنا حمام واحد شرك، والحريقة دي مش هتقعدنا بس في الشارع، لا دي هتدمرنا تماما، احنا كده لا شغل ولا مصدر رزق، لأن بعضنا كان بيسترزق من شغله في الورش اللي هنا، وكمان مبقاش في سكن حتى يلمنا".
تبكى ولاء وهي تؤكد أنها طالما طالبت من الحي توفير سكن لها ولأبنائها، بعد شكاوى كثيرة قدمتها، بشأن انتشار القمامة حول العشش الموجودة: "كان قلبي حاسس والله، أصل الجذمجية والناس هنا كانوا بيرموا الزبالة ناحية العشش اللي احنا ساكنين فيها، وكذا مرة أروح الحي بالصور، وأقولهم أن الزبالة كتيرة وخطر، والإجابة دايما حاضر من غير تنفيذ، يالا رضينا بالهم، بس الهم هو اللي مرضيش بينا".
10 سيارات إطفاء تسيطر على حريق الدرب الأحمر.. والمحافظة: نجري حصرا للخسائر
وبمجرد انتهاء "ولاء" من الحديث، استلمت "نجلاء عرفة" التي بدا عليها الهلع طرف الحديث وهي تشير إلى أنها لم تعد تملك شيء في الدنيا، سوى الجلباب الذي ترتديه، وهاتفها المحمول: "خراب مستعجل، وحل على دماغنا بسبب الحريق، كل الستات وأنا منهم نزلنا بالجلابيب إللي علينا، وحتى ملحقناش ناخد أي حاجة، واللي له قرايب، هيروح يقعد عندهم، واللي مالوش أهو قاعد في الشارع على كرسي، مش لاقي حتى كوباية المية، لأن معظم المحلات اتقفلت بسبب الحريقة، والناس بتساعد بعضها على قد ما تقدر"
تصمت "نجلاء" صاحبة الـ41 عاما قليلا، وهي تتأمل المنطقة، التي صارت كمدينة أشباح خالية من أي مظهر للحياة، بعد أن كانت حركة الشارع لا تهدأ حتى بعد منتصف الليل :"الحى جه لمعاينة المنطقة، بعد ما الحريقة انطفت، وعملنا محاضر بالحاجات اللي اتحرقت، وقالوا لينا ممكن يكون في تعويض، وده كل أملى في الحياة، لأنى اول مرة في حياتي اتبهدل بالشكل ده، ولا امشي في الشارع بعد نص الليل، ده غير إن أنا عندي 3 عيال ما بين جيش ودبلوم وابتدائي، ولازما اراعهم، وجوزي راجل سواق على باب الله يوم اه ويوم لأ، واحنا حتى بطايقنا اتحرقت، والواحد تايه ومرعوب".
أما "محمد حماصا" 30 عاما، صاحب محل كهرباء في المنطقة، أسفل العشش والمحال التي احترقت، والتي كادت تدمر محله هو الآخر، فأوضح متى بدأ الحريق: "لولا ستر ربنا، كان محلي الصغير هو كمان راح الحريقة، والموضوع لغاية دلوقتي محدش عارف بدأ منين بالظبط، هو بدأ تقريبا الساعة 6 أو خمسة ونص، لاحظنا دخان، وقولنا حاجة صغيرة ولا حاجة في ورش الأحذية فوقنا كمحلات.
وأضاف: "لكن فوجئنا الموضوع بيكبر، فجرينا كلما ننقذ الناس الأول، ونحاول نطفي الحريق بعد كده بس كان الموضوع فلت من أيدينا والمطافي بصراحة جت بسرعة، قطعوا الكهرباء عن المنطقة كلها، علشان الحريق ميزدش، بس النتيجة أن الورش كلها حرفيا اتحرقت، وواجهات بعض العمارات برضه باظت تماما من دخان الحريق، والأهم أن في مبنى أثرى، برضه أتأثر بالحريق، ومسجد المهمندار برضه والواحد الحقيقة زعلان على الحاجات دى، لأنها بتميز المنطقة، بس الأهم طبعا والحمد لله أن مفيش خساير بشرية".
بداية الحريق بحسب وليد الليثي أحد شباب المنطقة الذين ساهموا في عمليات الإطفاء حتى الآن غير معلومة: "في اتهامات متبادلة ما بين أصحاب الورش، المطاعم في المنطقة، فأصحاب ورش الجذم شايفين أن الحريقة بدأت من أحد مطاعم الفول والطعمية، بسبب المدخنة بتاعته، والمطاعم شايفين أن الورش السبب لأنهم بيشتغلوا بالنار والبلاستيك كتير، وممكن يكون في إهمال، وفي الاخر كلنا مستنين تحقيقات النيابة علشان تقول الحقيقة فين".