دينا عبد الفتاح تكتب : نظرية "البجعة السوداء"و"السيناريو B"
دينا عبد الفتاح
طرق العالم أبواب 2020 ولم يكن يتوقع ما يخبِّئه القدر خلف هذه الأبواب، فعكف خبراء الاقتصاد حول العالم يتداولون توقعاتهم حول نشوب أزمة مالية عالمية جديدة، ولكن هذه المرة هل ستكون نتيجة النزاعات السياسية التى اشتعلت على مدار الفترة الماضية؟ أم نتيجة التغيرات المالية التى باتت النماذج التنبُّؤية الحالية غير قادرة على التعامل معها، أم نتيجة التهديدات الناشئة عن التغير المناخى وفقاً لتقرير بنك التسويات الدولية؟
الحقيقة أن الأزمة حدثت بالفعل، أو شارفت على الحدوث، ولكن ليس لأى من الأسباب السابقة، بل بسبب انتشار فيروس غير معلوم خصائصه بمدينة ووهان الصينية فى نهاية العام الماضى، عُرف بفيروس «كوفيد - 19» من عائلة فيروسات كورونا، لينتقل بسرعة كبيرة من الصين إلى العالم، مخلّفاً عشرات الآلاف من المصابين وآلاف الضحايا.
وطريقة حدوث هذه الأزمة حفزت بشكل كبير عودة مصطلح «البجعة السوداء» أو «Black Swan» الذى أطلقه المفكر «نسيم نقولا طالب»، الفيلسوف الأمريكى من أصل لبنانى، وأستاذ «اللايقين» فى جامعة نيويورك على نظريته التى ألقى الضوء من خلالها على الأحداث غير المتوقعة ذات الأثر السريع واسع النطاق، والذى اقتبسه من الرمز الذى اتخذه الأوروبيون فى القرن الـ17 على الأشياء المستحيل حدوثها باعتبار أن جميع البجع يتميز باللون الأبيض ومن المستحيل أن تجد بجعة سوداء!
واستحدثت دراسة بنك التسويات الدولية هذا المصطلح مرة أخرى، ولكن بشكل يتعلق أكثر بأثر التغير المناخى غير المتوقع على الاقتصاد العالمى تحت عنوان «البجعة الخضراء»، وذلك لوصف الصدمة التى يشهدها النظام المالى بسبب الأحداث المرتبطة بالمناخ.
فى كل الأحوال، حدثت الأزمة بالفعل، ولم يتوقعها أحد بهذا الشكل، وفى تقديرى أنها ستغيِّر منطق تفكير العالم أجمع فى مرحلة ما بعد الأزمة، على نفس السياق الذى شهده العالم فى أحداث سبتمبر 2001، وضرب برج التجارة العالمى، وتغيير جميع القواعد المتعلقة بمكافحة الإرهاب والتطرف حول العالم، فضلاً عن تغيُّر سياسة الولايات المتحدة التى تعد القوة العظمى فى تعاملاتها الخارجية وتدخلها لحماية أمنها القومى وبناء قواعد جديدة من الحلفاء.
ولكن علينا أن نتساءل: مَن هم الأقل تأثراً بهذه الأزمة؟
حتماً ستكون الإجابة بأنهم هؤلاء الأفراد الذين توقعوا حدوثها بالفعل، بغض النظر عن طبيعة السبب، واستعدوا لها جيداً، وأعدوا سيناريو مناسباً للتعامل معها.
تساؤل آخر: هل هؤلاء الأفراد يمثلون دولاً معينة؟
أرى أن الإجابة «ليس بالضرورة»، فقد يمثلون دولاً توقعت الأزمة واستعدت لها، وقد يمثلون شركات سارت على نفس النهج، أو أشخاصاً طبيعيين، اتسموا بالحكمة فى إدارة حاضرهم، والاستعداد للمستقبل وتحدياته!
وهنا، وفى ضوء التساؤلات السابقة، يأتى دور مفهوم «المبادرة» فى إدارة الأزمات، وهو المفهوم الإدارى المرتبط بتوقُّع الأزمة والاستعداد لها بسيناريو تعامل محكم قبل حدوثها فى الأساس، لأن حجم الضرر الذى سيلحق بكل دولة، «شركة، مستثمر، رب أسرة، أو شخص عادى» نتيجة هذه الأزمة، سيترتب على مدى توقعه واستعداده لها.
لذا لا بد أن تكون الأزمة الحالية بمثابة «درس» للجميع، نتعلم منه، لنخفض عنصر المفاجأة فى حياتنا، التى كثيراً ما تكون غير سعيدة أو مواكبة لطموحاتنا.
هؤلاء الذين عاشوا بمبداً «اصرف ما فى الجيب يأتيك ما فى الغيب» عليهم أن يتخلوا عن هذا المبدأ، فقد ينقطع الدخل الآن، ويحمل الغيب لك شيئاً بالغ الصعوبة لك ولأسرتك.
وأولئك الذين اكتنزوا كل مدخراتهم فى أصول ثابتة صعبة التسييل «أى تحويلها لنقود أو سيولة» واعتمدوا فى إنفاقهم على الدخل المتوقع استمراره، عليهم أن يتحوطوا بشكل أفضل للمستقبل، باعتبار أن الدخل غير مضمون، ولا بد أن يكون هناك جانب من المدخرات فى شكل أصول شبه سائلة، أو فى شكل سيولة حقيقية، حتى لا يتعرضوا للأزمات، أو يضطروا للتنازل عن أصولهم الثابتة فى أوقات الأزمات بمقابل زهيد لهؤلاء الذين «يستثمرون فى الأزمة».
كما أن الشركات التى أقامت كل خُططها على عوائد مستقبلية، ولم تحطَط بنسب معينة من إيراداتها وأرباحها ضد الأزمات المستقبلية، قد تواجه الآن مشكلة كبيرة فى مدى قدرتها على الاستمرار بالسوق، وهذا المستثمر الذى وضع كل استثماراته فى سلسلة فنادق على الشواطئ، قد لا يحجز فى فنادقك أحد.
لذا، علينا جميعاً أن نغير من المنطق الذى نعتقده فى إدارة حياتنا، الدولة مطالبة بوضع «سيناريو B»، لإدارة الأزمات، قد يتضمن هذا السيناريو تشريعات مؤقتة تسرى فى أوقات الأزمات، بخصوص الضرائب والدخول ومحفزات الإنتاج والإنفاق، وبمجرد إعلان حالة «الطوارئ الاقتصادية» ننتقل تلقائياً لهذه التشريعات والسياسات، التى تكون مُعدة ومجهزة للتنفيذ، حتى لا نواجه معضلة «هذا التصرف الطارئ غير متوافق مع القانون» أو «هذا القرار يتطلب سلطة رئيس الجمهورية» أو غيرها من الأمور التى قد تعرقل إدارة الاقتصاد فى وقت الأزمة.
والأفراد مطالبون بمزيد من الحكمة فى إدارة أمورهم، والتعامل مع الحاضر بأنه فى «اليد» أما القادم فله العديد من السيناريوهات التى قد تحمل الفرص وقد تحمل التحديات.
كذلك الشركات، والمستثمرون، عليهم تنويع استثماراتهم على نحو يحجِّم من المخاطر المحتملة، وتجنيب احتياطى لأوقات الأزمات، يمكنهم من الاستمرار فى العمل، فى حالة هبوط منحنى الإيرادات.
علينا جميعاً أن نجهز «السيناريو B» ونضعه فى درج مدوّن عليه «إدارة الأزمة».