شيف لكل مواطن
شيف لكل مواطن
يبدأ شهر رمضان ليبدأ معه زوجي في اعداد معدته لا للصيام ولكن لاستقبال اكبر كمّ ممكن من الطعام وذلك بحجّة أنه يا ولداه حرم نفسه طوال ساعات النهار من المأكل والمشرب لذا فعليه أن ينتقم من معدته ويتحفها بكل مالذّ وطاب من أطعمة ومأكولات متنوعة ومختلفة على حدّ تعبيره ... وفي الواقع أن زوجي لا ينتقم من نفسه فقط إنما ينتقم مني أنا أولا ... لأنني المطالبة دون غيري بتحقيق كل هذا وعليّ طوال الشهر أن أكون مستعدة بكافة الأصناف ... ولأنه رجل ذواقة ومحترف طبيخ وأستاذ مأكولات ومشروبات فكان عليّ أن أضع كل اهتمامي في هذه الناحية فأطهو كل يوم أصنافا جديدة لا تبعث على الملل وتفتح الشهية وتنبّه الحواس الخفية لتستيقظ أنزيمات المعدة كلها وتؤدي وظائفها على أكمل وجه ... ومنذ بدء الشهر الكريم بدلا من أن أضع خطة للتراويح والختمات القرآنية والدعوات المرجوة وضعت خطة للمأكولات ومتابعة كل الشيفات ... ونظرت للجريدة التي تضع خطة برامج رمضان التليفزيونية فبحثت بهستيرية عن برامج الطهو وكانت المفاجئة المذهلة .. أكثر من خمسين برنامجا على القنوات التي أعرفها فما بالكم بالقنوات التي لا أعرفها وسجّلت المواعيد فاكتشفت اكتشافا مذهلا ... لو استيقظت من الفجر للمتابعة فلن انتهي من هذه البرامج حتى آذان المغرب وبدأت من أجل هذه التخمة البرامجية أغربل وأختار وانتقي وبالفعل وقع اختياري على متابعة الشيف بركات والشيف حسن والشيف أحمد ومتولي وبيومي ومرزوق وجمعة وخليل والست عنيات ... وبالورقة والقلم والصوت والصورة والتسجيل والمتابعة بدأت أكتب وأرصد كلمة كلمة باهتمام يفوق اهتمامي أيام الحامعة وأنا أكتب المحاضرات ... وكانت أصنافا عجيبة يقدمها الشيف بكل ثقة وكبرياء وأنا أكتب مندهشة من وضع عصير الليمون فوق الكركوم ممزوجا بدبس الرمان معجونا بزبادي مكتمل الدسم مضروبا مع البقدونس والفاصوليا الحمراء مخلوطا بزيت حبة البركة متجانسا مع المسطردة والمايونيز وحبات الفول السوداني ... هذا غير خلطات سرية غير معروفة المكونات ليتم وضع كل هذا على لحم او دجاح او سمك أو لبن أو تمر هندي وأنا أكتب بلا هوادة وصوت زوجي في أذني يرن قائلا من غياهب الجب في الذاكرة :" هو اللي هنصبح فيه هنبات فيه ... عايزين تنوّع يا هانم .. الناس بتتفنن ف الأكل كل يوم عشان تفتح شهيتها أمال هتعمل ايه ف رمضان ... خدي كورسات ولو معندكيش وقت اتفرجي ع الشيف بركات ... بيعمل أصناف تحفة " وكتبت كل ما قاله الشيف كلمة بكلمة وبدأت أنفذ وكلي شك في هذه المكونات التي كنت أظن عند اختلاطها بأنها ستفجّر المطبخ مثلا أو على أقل تقدير ستفجّر معدتنا عند نزولها بها في أقل من ثانية .. ولكنني كنت أستحضر صورة الشيف وثقته الزائدة بنفسه وكمّ الاطراء الرهيب الذي جاءه من مكالمات المعجبين والمعجبات وأنا أحدّث نفسي بأنه من غير المعقول أن أفهم أنا أكثر مما يفهم الشيف وكل هؤلاء النخبة من عاشقي الطبيخ وأعددت المائدة والأصناف والخلطبيطات وأنا أحلم بنظرات الأعجاب في عين زوجي وأولادي ومن ثم الانبهار بكل ما أضعه أمامهم من خبرات الشيف بركات وشركاه ... ووضعت الاصناف المبتكرة ولسان حالي يقول "يا ناس ياهوو تعالوا شوفوا ابدعاتي " وأذّن المغرب وعيني على الأصناف والشوق يأخذ مني مأخذه لسماع التعليقات وماأن مدّ زوجي يده ليقطّع "القتيل " أقصد الصنف الجديد ويضع قطعة لابأس بها في فمه هتى نهض كالملدوع وبصقه في منديل وصاح بقرف متناهي :" ايه دا يا هانم ... ايه اللي انت عملاه دا ... دوقي طبيخك الأول قبل ما تعمليني كبش فدا " وانكمش الاولاد بذعر مبتعدين عن المائدة المشبوهة قدر المستطاع وبيد مرتعدة وضعت وتحت تهديد السلاح قطعة من الصنف المعتبر في فمي ولم أشعر بعدها بنفسي إلا وأنا أسمع كلمات التوبيخ والتقريع والتبكيت :" طبعا وهو انا افرق معاك ف ايه ... مش مهم افطر ف رمضان ... نصوم لبكرة ... طيب ماصعبش عليك ولادك الغلابة دول ... كلي طبيخك ياهانم واللا هنرمي الاكل .. مش مدفوع فيه فلوس .. ياريتني كلت عند امي " وأمام هذا السيل من التوبيخ رفعت الطعام بهدوء ورفعت يداي بعدها بالدعاء باستماتة وأنا أهتف من أعماق قلبي قائلة : " منك لله يا شيف بركات .. أشوف فيك يوم انت ومعجبينك " .