الجفرى: «الحب» هو مفتاح التعامل مع الشباب الملحد والمتشكك
- خيرى رمضان: فى هذه الحلقة سنلتقى بنوع من شباب ذهب باختياره وإرادته يسأل وآمن بالإلحاد، ثم عاد إلى رحاب الدين، كيف ذهبوا، وكيف عادوا؟ ده موضوع حلقتنا النهارده.. فضيلة الداعية الإسلامى الحبيب على الجفرى، أعتقد أن هذه الحلقة تلقى فى نفس حضرتك سعادة ورضى واطمئناناً، كيف تنظر إلى من ذهب بعيداً وعاد محباً؟
- الحبيب على: الإنسان الصادق مع نفسه، الذى يحتاج فى اللحظة التى يكتشف فيها أنه قد أنجع أى أبعد فى طريقه، وأن الحق خلاف ما هو عليه، يحتاج إلى اتخاذ قرار الرجوع والاعتراف بشجاعة ليست قليلة ولا بسيطة. أولاً أفرح لأن الله عز وجل قد أكرمه وارتضاه لأن يعود، وبالتالى عادت صلته بالله وربما أقوى مما كانت عليه قبل ذلك، لكن أيضاً أشعر باحترام كبير لهذا الإنسان لأنه أستطاع أن يعترف بحقيقة تبدت له وتبدى له خطؤه فيها، وأن يدفع ثمن ذلك، ربما من أمور قد ترتبت حياته على أساسها.
- خيرى رمضان: لمَ يكابر؟
- الحبيب على: لم يكابر، وفرحى بإكرام الله تعالى له ولنجاته وبقربه بأن الباب انفتح له لأن يذوق أعظم ما فى هذا الوجود، وألذ ما فى هذا الوجود، وهو جمال الصلة بالموجد سبحانه وتعالى. لا شك أن أفرح له بذلك كثيراً، وأيضاً أحترم شجاعته فى قراره.. كان أنتونى فلو من أشهر ملاحدة القرن الماضى وأكثر الذين يتكلمون اليوم فى الإلحاد من دعاة الإلحاد الذين اتخذهم الشباب قدوةً كانوا عالةً عليه فى الجانب الفلسفى، وله أكثر من ثلاثين كتاباً ألفها فى خمسين سنة لنشر الإلحاد، وفى آخر سنوات عمره ألّف كتاب «There is a God» أى «هناك رب» ينقض به الخمسين سنة والثلاثين كتاباً، لا شك أن مثل هذا جدير بأن يُحترم.
- خيرى رمضان: نعم.. إذن من ذهب بشجاعة بعيداً عن الدين، نحترم شجاعته فى العودة إلى هذا الدين؟
- الحبيب على: ربما أشجع من ذلك، بمعنى أنه قد يذهب فى رد فعل، قد يذهب ألماً من شىء، وقد يذهب بتعجّل أخذ معلومات، لكن الشجاعة الأكبر هى شجاعة العودة بعد أن أصبح وجوده جزءاً كبيراً من وجوده وصِلاته مبنية على القرار السابق.
- خيرى: كيف يمكن لمن ذهب كرد فعل أو غضب أو عدم فهم أو فهم خاطئ أو بحث مبدئى دون إصرار على المعرفة الحقيقية، أن تقول لهم ارجعوا أو حاولوا أن تفكروا فى الرجوع؟
- الحبيب: أو تعيدوا النظر فى الفكرة، قبل أن أخاطبهم هم، بحاجة إلى مخاطبة بيت الخطاب الشرعى الإسلامى، يعنى أول خطاب ينبغى أن يوجّه إليه، جزء كبير من المشكلة نحن، لا بد أن نعترف وأن نحترم حق الإنسان فى البحث، لا بد ألا ننزعج عندما يبحث الإنسان خارج الصندوق الذى اعتدناه، أو خارج الأفق الذى نعرفه، ينبغى أن نشجع من احتاج إلى البحث ونساعده بإعطائه منهجية البحث أو المصادر. الرسالة الثانية للأسرة والمجتمع، إذا كنا قد قصّرنا فى السابق حتى أوصلنا الشباب إلى التشكك فى المسلمات، فلا ينبغى أن نُضاعف هذا التقصير بالحكم على الشباب والتهجم عليهم وإهدار كرامتهم لمجرد أنهم شكوا، وقد فرّقنا بين هذا وبين الذى يتطاول ويسب، فهذا لا كرامة له. والرسالة الأخيرة التى أنت طلبتها فى البداية للشباب: إذا اعتبرت نفسك باحثاً وهذا جيد، حاول أن تتعمق فى منهجية البحث، أن تدرس أكثر فى المنطق الصورى، والأدلة العقلية، والأدلة التى فيها الواجب والمستحيل وما بينهما، ينبغى أن تكون لك لحظة سكون مع نفسك من وقت إلى آخر تعمل مراجعة، صدقنى نحن نفعل هذا أيضاً، ستجد أثراً كبيراً، ينبغى أن تحاول فى لحظة السكون أن تفصل بين اختيارك للإلحاد كرد فعل فى حالة غضب من واقع خاص بك، أو بالمجتمع، أو بأهل الدين، أو بعلماء الدين، أو بتخلف أمتنا، هذه أسباب لا تكفى لأن تتخذ قرار الإلحاد، لكنها ستكون كافية جداً لأن تضللك أثناء البحث إذا لم تفصل بين رد الفعل فى داخلك وبين منهجية البحث الذى تأخذه.
هناك فرق بين من يبحث ليدين الدين وليحتج على الإسلام، ممن يبحث عما يساعده على التشبُّث بالإلحاد، وبين من يبحث بما يستطيع من محاولة الحياد، لا أقول ليفصل بين مشاعره وتأثره والظلم الذى تعرّض له وبين منهجية البحث العلمى.
- خيرى: فى القرآن إجابات عن كل ما كانوا يسألون، طيب ما كان القرآن بين يدى، كيف يمكن أن يروا قرآناً فيه تفسيرات مختلفة وصعباً على الكثيرين، ومع ذلك أنا شايف شابين بعد ما قرروا أن يخرجا بسبب ما يسمعان وما يقرآن يكتشفان أن الجواب فى الكتاب، بس يبصوا.. كيف هذا؟
- الحبيب على: هناك عدة نقاط: الأولى أن الإنسان عندما يكون نافراً ويبحث عن مبرر للخروج، من الصعب أن يتبصّر، فأدنى شبهة ستكون بالنسبة له كبيرة وأدنى استشكال سيجعله يخرج، لأنه أصلاً دخل بهدف الخروج، فتح المصحف، الكثير ولا أُعمم، فتح المصحف ليجد الكلمة التى تعينه على الخروج. فتح الإنترنت ليبحث عن رأى فيلسوف أو باحث معين يعطيه شبهة متعلقة به، بينما المشكلة أن لديه رد فعل من واقع عند العلماء أو المتدينين.
النقطة الثانية هى أننا نحتاج إلى الاعتراف بحاجتنا إلى اللغة العربية، لأننا سنجد الكثير من الإشكالات التى تتعلق بالخطاب القرآنى بمجرد النظر إلى قواعد اللغة العربية وهى منضبطه من بديع وبيان قبلها نحو وصرف وبلاغه، سيجد أن الذى بُنى عليه لا يصح البناء عليه. والنقطة الثالثة أن الذى أعان الشباب الذين رجعوا إلى كلام الله عز وجل هو الاقتراب من الإنصاف، الخطاب الفطرى الذى فى داخلهم هو الذى يحدوهم إلى الله، وجهه هذه المرة بآلية أن نبحث كما قلت أنت فى سؤالك إننا لا يمنع أن أحدث مرة أخرى مراجعة بعد مراجعة، وهذا مقتضى الإنصاف. فلما جاء مرة يراجع، وقد تخلص من الدوافع الآن يبحث عما يدين القرآن، فوجده مشرقاً فى القرآن، حجة الإسلام الإمام الغزالى رحمه الله تعالى، توسع فى العلو على نحو مُعجز، وصل إلى أقصى ما وصلت إليه الفلسفة فى عصره، ولهذا ألّف كتابه «مقاصد الفلاسفة» قبل كتاب «تهافت الفلاسفة»، وبالمناسبة الكثير يعوّلون على كتاب «تهافت التهافت» لابن رشد، رغم أنه أُلّف ردان عليه، مما يعنى أنهما لا يبقيان مجالاً فيما أظن، وفيما رأيت لأن يجعل «تهافت التهافت» رداً. أتقن علم الكلام والمنطق وأتقن مختلف العلوم العقلية، بحث فى العلوم الشرعية، كان علماً فى الأصول ووصل إلى أعلى الدرجات، كما يسمى اليوم الأكاديمية فى العالم، لأنه أصبح الرأى المترئس للمدرسة النظامية. والمدرسة النظامية فى ذلك العصر مثل هارفارد الآن وكامبردج وأكسفورد وبرلستون، حيث كان يجلس أمامه كما وصف أكثر من ثلاثمائة عمامة، والمقصود بالعمامة هنا العلماء، فإنهم كانوا يتتلمذون عليه، فكان معلم العلماء، لكنه فى لحظة صفاء وصدق وجد أن كل هذا الذى حوله لم يُثمر له يقيناً فى باطنه وفى قلبه، رغم أنه صار يُقنع الناس بالأدلة العقلية، فاعتزل كل هذا ورماه وراء ظهره بحثاً عن اليقين وعن الإخلاص. ويقول اكتشفت أن الإخلاص عندى لم يبلغ مبلغاً ينبغى أن يكون الرياء وحب المكانة والمنزلة والنظرة التى نظر إلىّ فيها تمنعنى عن الرجوع إلى الحق إذا اتضح، وهذا يعنى للشباب قد تكون بسبب مجاهرتك بالإلحاد أو كلامك أصبح لك وضع إعلامى أو وضع مؤسسى أو أن مؤسسات من الخارج تعدك بجائزة أو لجوء، أنت باحث عن الحق، حاول، لا أقول افعل، حاول أن تلقى هذا وراء ظهرك، وهذا صعب، لكن يحتاج إلى صدق، الإمام الغزالى رمى كل شىء وراء ظهره وذهب إلى الصحراء، وإلى الجبال والقفار سائحاً يفكر ويتأمل ويعيد النظر فى كل شىء واستغرق فى هذا سبع سنوات.
- خيرى رمضان: دا لحظة سكون طويلة.
- الحبيب على: رجع الإمام الغزالى، ليس فقط فى العلوم، بل فى العلوم وفى معرفة النفس البشرية وعمقها وكيفية تزكيتها وتهذيبها وألّف كتابه «إحياء علوم الدين» فى لحظة السكون هذه، عشر سنوات ليست سبع سنوات ألّف فيها «إحياء علوم الدين»، ثم رجع وألّف مؤلفاً مختصراً اسمه «المنقذ من الضلال» تُرجم إلى أكثر من ثلاثين لغة، وهناك رسائل دكتوراه عالمية أُلفت عليه، لأنه ذكر الرحلة بشكل راقٍ، لكن الذى يقرأ هذا الكتاب لا ينفر من المقدمة، رغم أن المنهج القديم مختلف عن المنهج الحديث. المنهج الحديث ألا تعطى النتيجة قبل أن تعطى الطريقة التى وصل إليها فى مقدمتها، والمتقدمون كانوا يعطون النتيجة، ثم يذكرون الطريقة، فالإمام الغزالى قد يصدمك لأنه فى البداية ومباشرة أعطاك النتيجة. فتجاوزها، وانظر فى الرحلة التى عاشها الإمام الغزالى حتى عاد فى هذا الحال العظيم والذوق الكبير الذى من خلاله أصبح صاحب لقب «حُجة الإسلام».
- خيرى رمضان: طيب.. أنا وقتى خلص، بس محتاج جملة للذى يشاهدنا الآن على مدى الحلقات السابقة وهو غاضب من الشباب الملحد، وأعرف أنه سعيد وهو يرى عودة هؤلاء الشباب، جملة تقولها لهذا المجتمع، ولكل واحد بيتفرج علينا، عندما ترى شاباً ملحداً، فلتدعُ له وليكن لديك أمل أنه سيعود كما عاد من رأيناهم.
- الحبيب على: دعونا نفكر مرة أخرى فى قدرتنا على الحب، هل نحن بالفعل قادرون على أن نحب؟ هل نحن قادرون على أن نرحم.. هذا هو المفتاح.