عصافير مثبّتةٌ في الفضاء .. حياة عليّ قنديل الآتية
عليّ قنديل
هناك دائمًا بدايةٌ واحدة لكلّ قصّة، لكن هذه الحكاية الغريبة متعدّدة البدايات: مرة تبدأ من الحاضر، ومرة أخرى من الماضي، بل إن لها بداية في المستحيل. لكنني أود أن أبدأها من ورقة شجر يابسة في كتاب صغير.
بداية رومانسيّة، بل ومجرّدة تمامًا مثل الحكاية كلّها، وهو ما يجعلها بالأساس- الحكاية- مشدودة دائمًا إلى المستقبل، متجهة إلى عالم لم يأت، كما إلى البشر في الأقاصي لكي يحلموا.
أما الكتاب الصغير فهو ديوان الشّاعر الرّاحل، عليّ قنديل- "1953- 1975"- وأما ورقة الشّجر، فهي لإحدى زميلاتي السّابقات، جمعتني وإياها تجربة صحفيّة واحدة قبل ثورة يناير. لكنها لا تريد اسمها في الحكاية التي تبدأ بالأخص من ورقتها اليابسة، والدّيوان الذي أحضرته معها لدى لقائنا.
لنسميها إذن "فتاة الحلم"، وهو اسم ربما يروقها كثيرًا، فهي من النّوع الذي يثق دائمًا في أحلامه. ولأنها تملك هذه الرّوح النّضاليّة الكبيرة أحبّت "عليًّا"، الشّاعر الذي مات منذ 47 عامًا. وتثق في أنها ستلقاه يومًا ما، أو ربما في حياة أخرى، إذا لم تكن هذه الحياة التي نعيشها كافية لإدراكه.
كان لقاؤنا لازمًا بعد أن امتلأت صفحتها على "فيس بوك" بالرّسائل المتتابعة إلى حبيبها الذي يأتي ولا يأتي. اتفقنا على اللّقاء لنتحدث عن "عليّ" الذي أحاول القبض على أثره، لكنني تأخرت كالعادة عن الموعد، وعندما وصلت كانت رسالة على الهاتف في انتظاري: "لقد غادرت. أتمنى لك التوفيق".
كلّفتني عودتها اعتذارًا حارًا عبر الهاتف، لكنني وجدتها تحتفظ بـ"كوب القهوة" الذي أضاعه تأخري، وهكذا طرحت عني "فتاة الحلم" عبء اعتذار جديد، فعدت سريعًا إلى مزاجي الأوّل، مستعدًا للمفاجآت:
تقول إنها تذهب إلى الشّاعر في قريته البعيدة، وتحسّ بأن شيئًا ما يدعوها لأن تفتح باب الحديد وتدخل إلى قبره. لقد كان موته حدثًا ظالمًا، هو طالب الطبّ الذي لم يكمل الثالثة والعشرين، والذي يملك كل أحلام العالم في نفسه الرّقيقة. كيف يموت ميتة عبثية كهذه بمجرّد أن يلمع نجمه الشّعريّ؟ لذا فهي تثق أنه مستمرٌ في حياة أخرى، هي الحياة التي ستلقاه فيها.
"فتاة الحلم" أمام قبر الشاعر
وهي تعرف أنه لم يخض مغامرة الحبّ، لكنّه تمنّى حبيبة غامضة تسكن قصيدته "وردة اليقين": "أحبّك/ وأنت على لوحة الغيب سطرٌ تغيّمه الأبخرة/ وأقسم أنك لي، ترقدين كأسطورة في خلايايّ، أو تقرأين الجريدة، يأتي إلى الأذن صوتك يشبه آخر قطرات مطرٍ على النّافذة". لكن الحبيبة عندما تأتي ستكون حياته قد انتُزعت منه، ومعها تلك الأحلام العريضة، وهذا الشّعر الذي يشبه الوتر المشدود، هذا الإيمان بالجدارة والتفوّق، وهذه النبوءة القويّة بأن الموت أسرع من أحلام الشّعراء.
لذا فهي تؤمن بأنه سيعيد خلق نفسه من جديد، بكهربائه الخاصّة، تمامًا مثلما يقول في كتاباته. وإلى أن تأتي هذه اللّحظة، تعوّدت أن تكتب إليه الرّسائل. وتقول إنه وضع لها رسائل مشفّرة في قصائده. وهي تسافر إلى غرفته البعيدة وتبكي. وإلى قبره الذي تود لو تفتحه وتدخل. تآخت مع إخوته، وصاحبت أصدقاءه، قرأت جميع أوراقه. أسألها: لماذا إذن لم تكتبي الحكاية؟ وتجيب: تمنّيت أن تكتبها أنت. لقد جئت إلى هنا فقط من أجل ذلك.
لقراءة الحلقة الأولي اضغط هنا.