منزل الطفولة والمراهقة بالإسكندرية.. وكر لتعاطى المخدرات
على مصطبة منزلها المواجه لتلك البناية الصفراء، جلست تلك السيدة السبعينية برداء أسود معتاد لنسوة المناطق الشعبية، تنتظر عودة حفيدها من المدرسة، بالنسبة إليها فموسم توافد مراسلى الصحف والقنوات التليفزيونية على ذلك الشارع الضيق بدأ لتوه ليسألوا أهله السؤال المُعتاد منذ 43 عاماً: «حد فيكم حضر موت الريس ناصر؟»، فتلك السيدة لا تأبى بذكريات شارعها مع «عبدالناصر وعائلته» بقدر ما يدميها تدهور الحال الذى وصلت إليه عائلتها منذ أن ذهبت رائحة «الزعيم» بعيداً عن الإسكندرية.
28 شارع القنواتى بباكوس، شارع لا يتجاوز عرضه 4 أمتار، طفح الصرف الصحى ضيفه «الدائم»، هنا وُلد جمال عبدالناصر فى عام 1918، هنا أمضى الرئيس فترة تعليمه الابتدائية والإعدادية، الإسكندرية بالنسبة لعائلة الأب «عبدالناصر حسين» كانت محطة بين محطات تنقله المستمر فى عمله بحكم وظيفته بمصلحة البريد، قبل أن تهجر الأسرة المنزل للأبد بعد إتمام الابن الأكبر «جمال» المرحلة الإعدادية.
«من يوم ما عائلة الريس مشيت.. ما جاش لينا هنا غير السادات»، السيدة السبعينية المرابطة على المصطبة، التى رفضت ذكر اسمها، استدعت صندوق ذكرياتها قائلة: «أبو الريس عبدالناصر باع البيت لعائلة ثانية.. لكن السادات أول ما مسك الحكم جه المنطقة وكانت ليلة.. وقال لنا إن البيت ده هيفضل بتاع عبدالناصر ومش ممكن يتباع»، بعدها قامت محافظة الإسكندرية عام 1971 بشرائه من مالكه الجديد بمبلغ 30 ألف جنيه لتخصيصه كمتحف.
حى «باكوس»، بحسب السيدة السبعينية، لم ينقلب حاله لهذا الوضع السيئ إلا مع بداية التسعينات، قائلة: «أيام الأربعينات كان ده حى الباشوات عشان نظافته وشوارعه الهادية.. لكن بعدها بقت الزبالة فى كل مكان والمجارى ضاربة فى كل حتة»؛ فمن أجل الوصول لشارع منزل الزعيم، عليك أن تمر بشارع مصطفى كامل الذى لا يخلو من أكوام القمامة الناتجة من مخلفات سوق السمك، فضلاً عن استمرار غزوة «التكاتك» للمنطقة دون رقابة.
مطلع كل صباح، يتجه إلى مقر عمله كحارس أمن على ذلك المنزل الأصفر، حينما سألناه عن شعوره وهو يحرس منزل «عبدالناصر» رد قائلاً: «عبدالناصر مين؟ أنا ماعرفش حاجة.. أنا قاعد هنا بخلص شغلى 8 ساعات وبروح»، بالتأكيد هذا الحارس لا يعلم أن وزارة الثقافة التى تولت الإشراف على المنزل تمهيداً لتحويله لمتحف منذ عام 2005، هى التى وضعته على مقعد خشبى داخل حديقة تكتظ بـ«الفئران» ليحرس منزلاً «مهدداً بالسقوط».
«محمد»، الحارس، يتحدث بحرص خوفاً من «قطع العيش»، قائلاً: «قطاع الفنون التشكيلية اللى فى الوزارة اتفق مع شركة أمن على حراسة المكان.. أنا مش عايز غير أكل العيش.. مش هسأل أنا هحرس إيه.. المهم أوفر أكل عيش لعيالى»، موضحاً أن شركة الأمن تسلمت المنزل قبل سنتين تقريباً، ووضعت لافتة بيضاء بعنوان «متحف جمال عبدالناصر»، ساخراً: «أنا أصلاً مابعرفش أقرا»، مشيراً إلى أن هناك عدداً من الموظفين يأتون يومياً يقضون ساعات عملهم الحكومى وينصرفون، مشيراً إلى أن المنزل يحتوى بحسب روايته على «مناضد ومقاعد متهالكة»، مؤكداً أن الوزارة تخبر الموظفين كل فترة وأخرى أن المنزل سيتحول لمتحف خلال شهور قليلة جداً.
بجوار المنزل، يجلس عم «خليل» داخل صالة للتدريبات البدنية أو ما يُعرف بـ«الجيم الشعبى»، واضعاً لافتة «ممنوع الحديث فى السياسة منعاً للإحراج»، ليؤكد أن «كل حاجة من ريحة عبدالناصر راحت»، مشيراً إلى أن الحكومة تجاهلت أهل الشارع تماماً لدرجة أن شبكة الصرف الصحى بالمنطقة، خاصة شارع القنواتى، انهارت، وقاموا بإبلاغ المحافظة لإصلاحها ولكن دون جدوى، موضحاً أنه فى أعقاب ثورة 30 يونيو وتلك الفترة التى شهدت اشتباكات وفوضى أمنية، بحسب تعبيره، كان عدد من البلطجية يحاولون الاستيلاء على المنزل، ووجد بعضهم يقوم بتدخين المخدرات داخل حديقة المنزل، مؤكداً أن أهالى المنطقة أنفسهم هم الذين أنقذوا المنزل فى أكثر من مناسبة من الانهيار، حينما أعادوا ترميم حديد سور المنزل.
فى الإطار نفسه، قال أحمد عبدالغنى، رئيس قطاع الفنون التشكيلية بوزارة الثقافة، فى تصريحات خاصة لـ«الوطن»: إن القطاع سيضع خطة ترميم المنزل، لكن لن يكون هذا فى القريب، خاصة أن منزل الإسكندرية صغير ومتواضع ولا يحوى نفس القيمة التاريخية التى يحملها منزل منشية البكرى.