التحرش: حاضر في الواقع.. وغائب في السينما
أكد عدد من الفنانين والنقاد أن ظاهرة التحرّش التى انتشرت فى السنوات الأخيرة، خصوصاً فى الأعياد، لم تلقَ الاهتمام الكافى من المبدعين، وأنها تستحق المزيد من اهتمامهم، خاصة بعد أن أطلت بوجهها القبيح بقوة فى السنوات الأخيرة، وضبط أكثر من حالة تحرش فى أول أيام عيد الأضحى، غير ما لم يتم الإعلان عنه، خير دليل على خطورة الظاهرة التى تفشت بشكل خطير فى المجتمع المصرى. وبرر هؤلاء المبدعون قلة الأعمال التى تتناول هذه الظاهرة بأن الفن ينقل الواقع، وهى لم تكن ظاهرة وواضحة بشكل قوى مثلما تبدو حالياً، لهذا لم يهتم المبدعون كثيراً بتقديم أعمال كاملة عن «التحرش الجنسى» واكتفوا ببعض المشاهد القليلة التى ظهرت فى بعض الأفلام السينمائية التى تُلمح إلى التحرش، سواء كان لفظياً أو جسدياً، باستثناء فيلم روائى وحيد تناول ظاهرة التحرش بشكل كامل، ومن خلال قصص حقيقية وواقعية، وهو فيلم «678»، الذى عُرض عام 2010 وقامت ببطولته نيللى كريم وبشرى وباسم السمرة وأحمد الفيشاوى وماجد الكدوانى وسوسن بدر، وتأليف وإخراج محمد دياب. عن ظاهرة التحرش الجنسى الحاضر بقوة فى الواقع والشارع المصرى، خصوصا فى الأعياد، والغائب تماماً عن خيال المبدعين على شاشة السينما يتحدّث عدد من الفنانين والمؤلفين والمنتجين والمخرجين والنقاد.
فى البداية يقول المخرج مجدى أحمد على إن «التحرش لم يكن ظاهرة كبيرة وواضحة إلا فى السنوات الأخيرة، لذا أعتقد أنه يستحق مزيداً من الاهتمام من المبدعين فى الفترة المقبلة، ويستحق أن تُفرد له مساحة أكبر فى خيال المبدعين، حتى يتم تناوله بشكل أفضل، رغم اعتقادى أن الفن ليس له تأثير كبير فى هذه الظاهرة التى تعود إلى أسباب كثيرة، منها نظرة المجتمع إلى المرأة، فى ظرف سياسى واجتماعى ودينى وفسيولوجى معقّد، مع خطاب دينى رجعى جداً ناحية المرأة، إضافة إلى العادات والتقاليد البالية، التى يجب التخلص منها اليوم قبل الغد، لذا أعتقد أنه لا يجب المبالغة فى دور الفن فى القضاء على هذه الظاهرة متشعبة الأسباب، لأن الموضوع أكبر من الأفلام بكثير».
ونفى مجدى أحمد على أن تكون لنوعية الأفلام التى تقدم فى هذه الفترة، خصوصاً الأفلام التى تعتمد فى بطولاتها على الراقصة والبلطجى، أى دور فى انتشار هذه الظاهرة، مؤكداً أنه «ليس معنى أن يكون البطل مجرماً أن يتحول الجمهور إلى مجرمين أيضاً، وإلا لقلنا أيضاً إن القتلة يشاهدون بعض الأفلام التى يكون بطلها رجلاً قاتلاً، فهل هذا منطق؟ بالطبع لا.. فالناس لا تتمثّل بالأبطال الذين يظهرون على الشاشة، ثم إن هناك عشرات الأفلام الأخرى التى تُعرض فى الوقت نفسه ولا يكون البطل فيها بلطجياً أو مجرماً، والخلاصة أن هناك مشكلات كثيرة تجاه نظرة المجتمع إلى المرأة، مع عدم الالتفات إلى مشكلات الشباب الذين لم نقدم لهم أى بدائل تساعدهم على الحياة الطبيعية».
أما المخرجة إيناس الدغيدى فرأت أنه «ليس صحيحاً أن الأفلام السينمائية غفلت عن تقديم ظاهرة التحرّش فى المجتمع، بل بالعكس هناك أفلام كثيرة رصدت هذه الظاهرة، ومنها فيلم (المغتصبون) الذى قامت ببطولته ليلى علوى، وتأليف وإخراج سعيد مرزوق، وفيلم (اغتصاب) الذى قام ببطولته فاروق الفيشاوى وهدى رمزى، عن قصة فاروق سعيد، وإخراج على عبدالخالق، وغيرهما الكثير من الأعمال الفنية التى تناولت الظاهرة التى بدأت بالتحرّش بفتاة، وانتهى الأمر بمحاولة اغتصابها، حتى إن هناك بعض الأفلام القديمة «الأبيض والأسود» التى تناولت ظاهرة التحرش، والمعنى أن السينما ناقشت الظاهرة فى حدود حجمها الطبيعى، لأن التحرّش ليس من طبيعة الشعب المصرى، فضلاً عن أن من أسباب التحرش اليوم أن الشباب المصرى، عكس الأوروبى، محروم من ممارسة العلاقات غير الشرعية قبل الزواج، دون أن يعنى هذا أننى أدعو إلى السماح بهذه العلاقات، ولكنى أفسر الأمر فقط، إضافة إلى أنه يعانى من «كبت» تام فى كل شىء، كبت اجتماعى واقتصادى وسياسى وجنسى أيضاً».
وأكدت إيناس الدغيدى أن الأفلام التى يقدّمها المنتج «السبكى» حالياً، قد تكون مسئولة عن جزء بسيط من الظاهرة المتفشية اليوم، لأن «الراقصة» التى تظهر فى أفلام اليوم كانت تظهر فى عشرات الأفلام التى قُدمت فى السينما المصرية منذ سنوات دون أن يؤدى هذا إلى انتشار التحرش بين الشباب حينها».
من جانبه قال المنتج أحمد بدوى، مدير شركة «نيوسينشرى» التى أنتجت فيلم «678»، الذى رصد الظاهرة وناقشها بشكل جاد، إن «الشركة كانت لديها رؤية مستقبلية لهذه الظاهرة، خاصة بعد أن رأينا الكثير من الظواهر التى تدل على تفشيها فى المجتمع المصرى، فأردنا أن ندق ناقوس الخطر بتقديم هذا الفيلم، الذى اعتمد على شهادات وقصص حقيقية فى المجتمع، وكنت أتوقع أن تتوالى الأفلام التى تدور حول هذه الظاهرة الخطيرة والجديدة على مجتمعنا المصرى، ولكن للأسف لم تكن قراءة البعض للموضوع جيدة، واعتبروا أن الأمر مؤقت وعارض، ولم تكن قراءتهم صحيحة».
ونفى أحمد بدوى أى تأثير لبعض الأفلام المعروضة حالياً والتى يقوم ببطولتها بلطجية أو راقصات، فى زيادة ظاهرة التحرش، مؤكداً أن الموضوع فى البداية والنهاية عبارة عن «ثقافة شعب».
وأكد السيناريست بشير الديك «أن فكرة التحرش حديثة، ولم تكن موجودة فى الواقع من زمان، وقد ظهرت ضمن (ثقافة الزحام) التى نعيشها حالياً، فالمكان الذى يسع عشرة أشخاص يوجد فيه مائة، والقاهرة التى تسع خمسة ملايين يعيش فيها أكثر من عشرين مليوناً، وظهر التحرش مصاحباً للزحام مع انعدام القانون وانهيار الدولة، ولأن السينما تنقل الواقع فإنها لم تلتفت إلى هذه الظاهرة لعدم وضوحها إلا فى السنوات الأخيرة».
وأضاف بشير الديك أن «نوعية بعض الأفلام المعروضة حالياً تسهم فى زيادة بروز الظاهرة، مذكراً الجميع بحادث التحرش الشهير الذى حدث أمام إحدى قاعات السينما، فى شارع عماد الدين، فى وسط البلد، بعد قيام بطلى الفيلم حينها، وهما المطرب الشعبى سعد الصغير والفنانة الاستعراضية (دينا) بالغناء والرقص أمام القاعة، وكانت النتيجة هى حدوث حالات تحرش عديدة فى هذا اليوم».
وبرر يوسف شريف رزق الله قلة عدد الأفلام التى تناولت ظاهرة التحرش بأن «هذه الظاهرة لم تكن منتشرة بهذه الدرجة من التوحش فى السنوات السابقة، حتى إننى لا أذكر أن هناك فيلماً ناقش هذه الظاهرة بشكل فنى إلا فيلم «678» الذى ناقش الموضوع من جوانبه المختلفة، بشكل شديد التميُّز، وأرى أن على السينما فى الفترة المقبلة أن تلعب دورها فى هذه القضية الشائكة للتصدى لهذه الظاهرة التى أعتقد أن لها أسباباً كثيرة، منها ما هو اجتماعى، ومنها ما هو دينى، ومنها ما هو أخلاقى، ومنها ما هو سياسى، ولكن السينما من أكثر الوسائل التى يمكن أن تلقى الضوء على كل ذلك، وأن تلعب دوراً مهماً فى مجابهتها».
وأضاف يوسف شريف رزق الله أن «من الأفلام المهمة أيضاً التى تناولت ظاهرة الاغتصاب، الذى بدأ بالتحرش، فيلمى (المغتصبون) لليلى علوى، و(اغتصاب) لفاروق الفيشاوى، اللذين اعتمدا على مجموعة من القصص الحقيقية، أما السينما العالمية فلم تناقش ظاهرة التحرش فى أفلامها، لأنه ليس موجوداً عندها، ولكنها قدّمت عدداً من الأفلام عن شخصيات مريضة نفسياً كانت تختطف الفتيات لاغتصابهن، ولكن الفرق هنا أننا نتحدث عن مرضى نفسيين، ولا نتكلم عن أصحاء أسوياء، وبعض هذه القصص كانت نقلاً عن حوادث حقيقية، تمت فى الواقع، وبعضها الآخر كان من وحى خيال كتابها ومؤلفيها، وأشهرها فيلم (جامع الفراشات)، الذى كان يدور عن رجل مريض نفسى، كان معجباً بإحدى الفتيات، فقام بخطفها واحتجازها فى منزل ريفى، وكان يمارس الجنس معها رغم إرادتها، وهناك أفلام أخرى كثيرة تناولت هذه الظاهرة، ولكن من جانبها المرضى والنفسى فقط، بعيداً عن حالات التحرش فى الواقع».[FirstQuote]
وعن نوعية بعض الأفلام المعروضة حالياً، التى قد تثير غرائز مشاهديها، قال شريف رزق الله: «صحيح أن بعض الأفلام يمكن أن تقدم نماذج لشباب منحرف فى العشوائيات، قد تكون سبباً فى أن بعض الشباب، المنحرف أصلاً، يسلك سلوكاً غير سوىّ، ولكن الصحيح أيضاً أن التحرّش ظاهرة اجتماعية، ولها أسباب كثيرة، منها التربية فى البيت، وفى المدرسة وفى الجامعة، كما أن للمساجد دوراً مهماً أيضاً فى التصدى لها، ويجب أن يلعب كلٌّ دوره فى محاولة للقضاء على هذه الظاهرة».
وقال مدير التصوير كمال عبدالعزيز، الرئيس السابق للمركز القومى للسينما، إن المركز كان يستعد لتنظيم ورش عمل سينمائية لتلاميذ المدارس لصنع أفلام تسجيلية قصيرة عن التحرّش الجنسى، وأن هذه الورش كانت ستتم على أيدى متخصصى السينما التسجيلية، بالإضافة إلى مشاركة الفنانين التشكيليين محمد عبلة وأمانى عبدالبارى لرسم لوحات مع التلاميذ، لمناهضة التحرّش ومناقشتهم لوضع سيناريوهات عن الأفلام التى يريدون تقديمها عن هذه الظاهرة».
وأضاف كمال عبدالعزيز أن «السينما المصرية لم تقصّر فى عرض قضايا التحرّش والاغتصاب، وقامت ليلى علوى وإلهام شاهين وغيرهما ببطولة العديد من الأفلام التى ناقشت هذه القضية».
وأكد كمال عبدالعزيز أن «الأفلام المعروضة حالياً، حتى إن كانت سيئة لا تؤثر فى زيادة ظاهرة التحرّش، لأن نوعية هذه الأفلام موجودة من الثمانينات، ولم تؤدِ إلى التحرش، وفى كل فترة هناك أفلام، بعضها جيد وبعضها سيئ، دون أن يؤثر هذا على سلوك المشاهدين».
ورأت المخرجة نيفين شلبى، أنه «ليس مطلوباً من المبدعين أن يناقشوا إلا القضايا التى يؤمنون بها، وأنه ليس من حق أحد أن يفرض عليهم مناقشة قضية معينة، فالسينما ليست «البرنامج الحياتى» الذى يعرض للمشكلات المجتمعية ويقدم حلولاً لها، والمبدعون ليسوا مجبرين على تقديم أى قضية إلا إذا انفعلوا بها بالفعل».
وتابعت نيفين شلبى: «قدمت ثلاثة أفلام تسجيلية، من إنتاج هيئة الأمم المتحدة، ناقشت ظاهرة التحرش، ولكن من زوايا متعددة ومختلفة، وهذه الأفلام هى: (اتكلمى، وشكوى إلى البحر، ومروة)، وذلك بعد أن انفعلت بهــــذه الظاهرة التى تفشت فى المجتمع، كما أجهز حالياً لفيلم رابع بعنوان (الغابة) يناقش الــظـــاهرة من زاوية مختلفة».
وتعتبر الناقدة ماجدة موريس أن «فيلم (678) هو أبرز مناقشة لقضية التحرش، وأنه أعاد التذكير والاهتمام والاعتراف بهذه المشكلة، وأن السينما المصرية لم تقدمها قبل هذا الفيلم أو بعده، كما ينبغى أن تقدم، بحجة أن هناك قضايا أكثر أهمية أولى بالتقديم، ومن هنا قدّمت ما رأته أكثر أهمية، وهو الاغتصاب فى أكثر من عمل».
وأشارت ماجدة موريس إلى أن هناك أسباباً عديدة أدت إلى عدم اهتمام السينما بهذه القضية، منها «أنها لم تكن قضية مهمة أو ذات قيمة فى الستينات أو السبعينات، إضافة إلى أن هناك تعتيماً اجتماعياً على مثل هذه النوعية من القضايا، وكلنا يتذكر حادث (فتاة العتبة) وكيف تم التعتيم عليه، والتعامل معه على أنه حالة فردية، لم تحدث من قبل، ولن تحدث مرة أخرى، رغم أن كثيراً من منظمات المجتمع المدنى وحقوق الإنسان تحدثت عنها، وأكدت فى تقارير رسمية أن التحرش زاد فى السنوات الأخيرة، ولكن الدولة لم تكن تهتم بهذه التقارير، حتى إن عدداً من ضباط الشرطة فى الأقسام كانوا يرفضون تحرير محاضر للفتيات اللائى يتم التحرش بهن، معتمدين على أن هناك تراثاً ثقافياً مصرياً يجعل الإعلان عن مثل هذه النوعية من القضايا عيباً، وزاد من المشكلة أن التحرش كان يُستخدم لأسباب سياسية بين بعض الخصوم السياسيين، الذين كانوا يستخدمونه لأغراض دنيئة زادت الأمر تعقيداً».[SecondQuote]
ويختتم الناقد والمؤرخ محمود قاسم الحديث، قائلاً إن «الأفلام القديمة قدمت التحرش فى أول أشكاله وهى (المعاكسات) التى كان يقوم بها الفنان حسن يوسف، فى فيلم (أم العروسة) مثلاً، وفى كثير من أفلامه، أو مشهد تحرّش أو معاكسة شكرى سرحان لزميلته فى الجامعة التى أدت دورها سهير المرشدى فى فيلم (بنات فى الجامعة)، إخراج عاطف سالم، وغيرهما الكثير من الأفلام القديمة، ولكن الأمر لم يتعدَ المعاكسات اللفظية، لأن التحرش بشكله الواسع لم يكن موجوداً مثلما هو موجود اليوم، ولكن السينما اهتمت بالاغتصاب فى أكثر من عمل منها (الخرساء)، بطولة سميرة أحمد، و(اغتصاب) بطولة فاروق الفيشاوى، و(المغتصبون) بطولة ليلى علوى، و(الأوباش) بطولة يحيى الفخرانى، وأعتقد أن هذه الظاهرة ستلفت نظر المبدعين فى الفترة المقبلة، بعد زيادتها وتفحشها فى السنوات الأخيرة، أما عن الأفلام التى تُعرض حالياً وقد يرى البعض أنها تساعد على زيادة حالات التحرش فى الشارع، فأنا فى الحقيقة مختلف مع هذا الرأى، وأرى أن الظاهرة أكثر تعقيداً من تبريرها بهذه الأفلام».