سعفة وباقة زهور
استيقظتُ لأجدها كالعادة قد انفلتت؛ ولكن صوتها ظل يتردد فى أذنى، وأنا بين اليقظة والإغفاء، صوتها العفى النضر: «قم يا كسول؛ لتُخرِج الأبقار للمرعى، قم، فالشمس ملأت الدنيا نوراً».
فقد كانت تستيقظ مع نسمة السحر الأولى، تتوضأ وتصلى ما قدَّر الله لها من الليل، وترتل وِرْدها المعتاد حتى يَحِين الفجر فتصلّيه، وتتضرع إلى الله، وتلحّ عليه فى طلب الستر والمغفرة، وتختصنى بدعوات سأظل أجنى خيراتها ما حَيِيت، ثم تحمل الأوانى، وتغدو للحظيرة، تحلب الأبقار، تغلى اللبن، وتصنع الجبن، ثم تعود لتوقظنى بكلماتها الرقيقة التى لا تغادرنى:
«قم يا صغيرى؛ لتصلى الصبح قبل شروق الشمس، قم، لا تجعل الشيطان يغلبك، الشياطين تستيقظ فجراً؛ لتتبول فى آذان الكُسالى الذين تدركهم الشمس نياماً».
هذه الكلمات التى تبثُّها روحك، التى تحوطنى وتحمحم حول رأسى رقيقة، يوقظنى صداها كل صباح، حتى بعد أن اختلف الزمن، وتبدل الناس، وتلوثت القلوب والنفوس، وحتى بعد أن توارى منى منتصف أربعينات العمر.
الكسول الآن أصبح أشهر أطباء مرضك اللعين، وإن ازدادت الأمراض، وتنوعت، وانتشرت لتلتهم الناس فى بلداننا التهاماً.
العالم كله يعرف قدره ويرحب به، بفضلك وفضل ما غرسته: من محبة، ووفاء، وإخلاص، واجتهاد.
ها هو يغلبنى الحنين، وها أنا أعود، فسامحينى يا جدة إن تأخرتُ عليك، كم أنا محتاج ليدِك تُربِّت فوق كتفى، إلى نصائحك تضىء لى الدروب، إلى دعواتك تذلل لى الصعب العسير، إلى صدرك يحتوينى!
ها هى السعفة فوق قبرك، كما طلبتِ وقلتِ قديماً: «كن خشناً يا ولد، الزهور ستموت سريعاً فوق قبر عمك».
عمى الذى أورثك استشهادُه غصَّةً وألماً، يخالطهما الفخر، وكان يحمل بأعماقه: الثورة، والطوفان، والحلم، فلا يرضى بالظلم، ولا الذل، ولا المهانة، شهيد «حرب 67»، راح يحمل قنبلته، ويهاجم بها إحدى دبابات العدو، بعدما أحاطته الهزيمة، وحاصره الاستسلام من كل صَوب، وكيف لرفاقه جاءوك بثيابه العسكرية ملطخة بدمائه، وبفيض من أحلامه؟
كان دوماً مثالاً للبطل فى كل قضية بأفعاله يا جدة.
وها هى الزهور فوق قبرك، زهور أمى النواعم بنت البندر، التى تنشط فى الذاكرة كل حين نظرتك الحادة لها، وهى كما قلتِ: «تلخبط العجين»، ويداعب أذنىَّ صدى كلماتك اللائمة الجافة: «أصلها تربية بندر، عايشين على خبيز الطابونة الممشش»، فتضحك أمى بدلال، وتحتويك وتقبِّل يديك، وتهمس بصوتها الصادق الحنون: «علمينى يا ست الكل»، تنفضين نفسك منها، وتبتسمين من خلف الكلمات الجافة: «شوفوا يا ناس، سهوكة النسوان، امشى يا بنت شوفى الخبيز حيتحرق فى الفرن».
ثم تأتى لأبى توصينه بها: «صون مراتك يا بنى، مراتك أصيلة، ومفيش منها فى الزمن ده».
أما تعلمين يا جدة، أنها أصبحت مثلك، لديها أحفاد، وزوجات أبناء، وأزواج بنات، وما زالت رقيقة، تُحضِر لك سعفة وباقة زهور، تضعها فوق قبرك فى يوم الخميس كل أسبوع، تقرأ لروحك الفاتحة، وتمضى الهُوَينى، ثم ترجع تُهاتفنِى فى بلادى البعيدة، تحثنى على زيارتك، ولمّا أعود، وأصعد النخلة المثمرة بملابسى الرسمية، تضحك، وتهش الأحفاد المغتبطين بعصاها؛ كى لا يشاهدوا عمهم الطبيب الكبير، وهو يجلب السعف من فوق النخلة، تضحك، وتؤكد أننى سأظل طفلاً، حتى لو أصبحت وزيراً.
تنفض عنى غبار النخيل، تربت فوق كتفى بحنوٍّ، وأنا أقبِّل يدها، تسألنى: هل أحضرت الزهور؟ تتغير ملامحها حين أقول: إن جدتى كانت تحب السعف، وكانت تردد: إن الزهور تموت سريعاً، تتأوَّه غير مقتنعة بحججى؛ لأنها تعلم الحقيقة أن الوقت لم يسعفنى، تذهب للداخل -ببطء وسط ارتباكى ونظراتى المستفهمة- وتعود تمهر سائقى النقود، لجلب باقة الزهور، وتقول: إن الزهور تموت سريعاً، ولكنها تحتفظ بالرائحة.