مساومات إسرائيل لإعمار غزة: نزع سلاح «حماس» وإزاحة «مشعل» و«هنية»
حتى لو لم تحضر إسرائيل مؤتمر إعمار غزة بالقاهرة، ليس فى استطاعة أحد أن ينكر أنه لا إعمار دون تسهيلات من الجانب الإسرائيلى، فما زال نتنياهو يحتفظ بأوراق اللعبة فى يده، ويحاول أن يخرج رابحاً قدر المستطاع، ويحقق بالقضية مكاسب عجز عن تحقيقها بالحرب.
لم يكن الدمار الذى سببته إسرائيل فى غزة من مستلزمات الحرب فقط، بل كان خطة وضعتها القيادة السياسية والعسكرية، حتى يدفع الغزاويون ثمناً قاسياً لالتفافهم حول حماس، ومنذ أن اتخذ نتنياهو قراره بتدمير القطاع كانت إسرائيل تهيئ نفسها للمساومات التى ستطرحها لإعادة إعمارها.
أحد الساسة الإسرائيليين علق فى وسائل الإعلام الإسرائيلية بأن غياب إسرائيل عن مؤتمر إعمار غزة، جاء بالاتفاق بين مصر وتل أبيب، بعد سلسلة من الخطابات التى تبادلها البلدان، فالإدارة المصرية رأت أن غياب إسرائيل عن المؤتمر سيشجع الدول العربية المانحة على تقديم مساعداتها لغزة دون حرج، وتفهمت الإدارة الإسرائيلية ذلك، وبدأت تدير الأمر من جانبها، حتى تخرج منه بأكبر قدر من الأرباح، إعمالاً بالقاعدة اليهودية التى تقول أن «لا شىء دون مقابل».
جانب كبير من المساومات تستعد الدولة العبرية لطرحها، خلال الأيام المقبلة، وظهر بعض منها فى تصريحات وزير الخارجية الإسرائيلى، أفيجدور ليبرمان، فى حواره مع جريدة «يديعوت أحرونوت»، حيث أكد فى تصريحاته على عدة نقاط، هى أن إسرائيل مهتمة بإعادة تأهيل وبناء المناطق السكنية المدنية فى غزة، مع ضرورة التأكيد على آليات إدخال المواد، ورصد وصولها لأهدافها، ومعرفة كمية الأموال التى ستدخل القطاع، وشدد على أن جميع المواد والمعدات اللازمة ستدخل عبر المعابر الإسرائيلية فقط، وشدد على ضرورة تسلم السلطة الفلسطينية مقاليد الحكم فى غزة بدلاً من حماس، وألا يكون ذلك حكماً رمزياً، مؤكداً أن الولايات المتحدة لم تمل شروطاً على تل أبيب، وأن قرارات إسرائيل نابعة من رؤيتها الخاصة.
أولى مساومات إسرائيل حول أزمة المعابر، ففى الوقت الذى كانت فيه حماس تطالب إسرائيل بفتح المعابر، وفك الحصار الاقتصادى عن أهل غزة، وبعد أن أوشكت إسرائيل على قبول مطالبها مرغمة بعد خسارتها فى حرب غزة، جاءت مسألة إعمار غزة، لتقلب دفة القضية برمتها، فبداية وافقت إسرائيل على فتح المعابر بشرط أن تخضع إدارتها للسلطة الفلسطينية، وبدأ جهاز الأمن الإسرائيلى يتابع الحوار بين حماس والسلطة الفلسطينية، حول الشكل الذى سينتشر فيه آلاف من أفراد الشرطة الفلسطينية حول المعابر الحدودية فى رفح وكرم أبوسالم وإيريز، وحول طرق أدائها هناك، ولم يتقرر بعد ما إذا كان النظام الأمنى عند المعابر سيبقى كما هو بحيث ستسيطر مديرية المعابر الفلسطينية بطريقة «التحكم عن بُعد»، أم أنه ستقام مكاتب جديدة قريبة من المعابر، وهنا تدخل «الشاباك» فى المفاوضات، معرباً عن تخوفه من التغيير الذى سينفذ فى الأراضى الفلسطينية فى القطاع، بأنه قد يجلب معه ليس فقط ظواهر الرشاوى والفساد والبيروقراطية التى ستؤخر العمل فى المعابر، وإنما قد يعيد العمليات التفجيرية فيها، لأن حماس ستبدو كمن رفعت مسئوليتها عن المعابر، وهو ما يتطلب حماية من قبل إسرائيل، وهو أيضاً ما يؤكد أن إسرائيل لن تترك للسلطة الفلسطينية السيادة المطلقة على المعابر.
فى هذا السياق، علق مسئول أمنى إسرائيلى فى موقع «والا»، بأنه على جهاز الأمن الإسرائيلى مراقبة حركة مواد البناء الداخلة إلى قطاع غزة، وتشكيل نظام المراقبة المشترك، الذى تشارك فيه إسرائيل إلى جانب السلطة الفلسطينية والأمم المتحدة. وكان طبيعياً جداً بعد المساومة أن تلوح إسرائيل بفزاعة الحرب الجديدة على غزة حتى تضمن نجاح مساومتها للسلطة الفلسطينية على مسألة قبولها بالتحكم الإسرائيلى فى المعابر، فخرج «ليبرمان»، فى حواره مع إذاعة الجيش الإسرائيلى مؤكداً أن حركة «حماس» لن تتخلى عن سلاحها طوعاً، وبناءً على ذلك يجب منع تعاظم هذه الحركة عسكرياً، والتأكد من عدم وصول الأموال التى سيتم التبرع بها خلال هذا المؤتمر إلى مصانع إنتاج الأسلحة، وإلى أعمال حفر الأنفاق الهجومية. وأضاف أن الفلسطينيين وحدهم بإمكانهم منع عملية عسكرية إسرائيلية جديدة فى قطاع غزة، لكون إسرائيل غير معنية بمهاجمة القطاع مرة أخرى. وأكد أن إسرائيل لا تبحث عن أى مغامرات، لكن فى حال استئناف إطلاق القذائف الصاروخية على أراضيها فمن حقها الدفاع عن نفسها.
أما ثانية المساومات الإسرائيلية فكانت حول تسهيل إعمار غزة، مقابل نزع سلاح حركة حماس، وهو الأمر الذى كان ضمن أهم أهداف إسرائيل فى حرب غزة الأخيرة، التى فشلت فى تحقيقها، ما جعلها تتخذ مسألة إعمار غزة ذريعة لتحقيق هدفها، وهى نفس وجهة النظر التى تبناها الكاتب «غيور أيلاند» فى مقاله بجريدة «يديعوت أحرونوت»، حيث أقر بشروط المساومة بصراحة فى مقاله، فكتب: «ليس لدى إسرائيل أى مصلحة جغرافية أو اقتصادية أو سياسية فى غزة، ومكانة السلطة الفلسطينية فى القطاع تظل شأناً فلسطينياً داخلياً، لكنها بالتأكيد ليست شأناً إسرائيلياً. وفيما يتعلق بغزة، ليست لدينا سوى مصالح أمنية، والحديث يدور حول مصلحتين اثنتين هما: أن يكون هناك هدوء، وأن يتم المساس بإمكان أن تعيد حركة «حماس» بناء قدراتها العسكرية، فعلى إسرائيل أن تبدى أكبر قدر من السخاء والأريحية، وأن توافق على توسيع النشاط الاقتصادى مع غزة، وأن يشمل ذلك كل ما يتعلق بتزويدها بالكهرباء والمحروقات والمياه وأكثر من ذلك، تستطيع إسرائيل أن توافق على أن يُقام فى مرحلة ثانية ميناء فى غزة - وذلك كان أهم مطالب حماس فى المفاوضات- بشرط أن تكون إقامته مرهونة بإيجاد منظومة موثوق بها لتجريد القطاع من السلاح. ولا شك فى أن إقامة ميناء كهذا ستستغرق أعواماً طويلة، وستشكل إقامته فرصة تجعل من الأصعب على «حماس» أن تطلق النار على إسرائيل فى المستقبل، وأن تعرض للخطر مشروعاً باهظ الكلفة. فضلاً عن ذلك، فإن مجرد وجود ميناء لا يشكل خطراً، والذى يحدد حجم الخطر هو النظام البحرى الذى يمكن الاتفاق عليه كجزء من صفقة شاملة».
أما المساومة الثالثة، ففيها تقايض إسرائيل الشعب الغزاوى، حيث تعلن قبولها بمرور مواد البناء والأموال إلى غزة، بشرط تعاون أهل غزة مع السلطة الفلسطينية، وليس مع حماس، ومحاولة إقناع الغزاويين بأن الحركة جلبت لهم الحرب والدمار، أما «أبو مازن» فسيجلب لهم الرخاء، وعلى هذا المضمون علق الكاتب «بوعز بسموت» قائلاً: «إعمار غزة مصلحة إسرائيلية، فالمنطق يرى أنه إذا كان جارى فى خير فأنا فى خير، لكن ماذا نفعل إذا كان جارى الفلسطينى اختار فى 2006 أن يمنح حركة حماس الأكثرية فى المجلس التشريعى فى انتخابات ديمقراطية؟ وبعد سنة ونصف فى 2007 استولت حماس، تدعمها ريح انتخابية قوية على قطاع غزة بالقوة، مشكلتنا أنه ما زال جارنا الفلسطينى لا يدرك أن الطريق إلى إعمار غزة لا يمر بالبنك، بل بإخراج حماس من الصورة، وهذا غير سهل فى الحقيقة، لذا فنحن نريد من السلطة الفلسطينية أن تظهر علامات نفورها من حماس بدل احتضانها. لو ضمن لى أن المال سيخدم المواطن الغزاوى، ربما حولت أنا أيضاً اليوم تبرعاً متواضعاً منى، لأن الجار الطيب أفضل من القريب البعيد، ويصعب على العالم أن يفهم أنه لا مصلحة للإسرائيليين أكبر من أن يعيش الغزاوى بخير لأننا أقرباء، وحينما يعطس الغزى يجب علينا أن نمسح أنوفنا، فهل 4 مليارات ستذهب حقاً لسكان غزة؟، ليتنا نستطيع أن نشترى السذاجة بالمال.
وفى السياق نفسه، علق «دان مرغليت» الذى وجد أن تقوية السلطة الفلسطينية أمر صعب، وقال: «يوجد أمل ضعيف فى أن تضعف مكانة حماس إثر عملية الجرف الصامد وتقوى السلطة الفلسطينية، وهذه خطوة فى الاتجاه الصحيح. لكن من ذا يُقدر حقاً أن حماس ستدع أبومازن يراقب ما يجرى فى القطاع؟».
أما المساومة الرابعة، فتلك التى اقترحها «دان مرغليت» فى مقاله، حيث أكد أنه يجب أن تقدم ضمانات لإسرائيل بألا تطلق حماس صواريخها مجدداً على إسرائيل وكتب «مرغليت»: «طلب نائب الأمين العام للجامعة العربية، محمد صبحى، من إسرائيل ضمانات كى لا تكرر الهجوم على غزة. لكنه لم يقترح أن يضمن لها ألا تهاجَم بقذائف صاروخية، ومحاولة اختطاف كما حدث فى الماضى. وقد ردت إسرائيل على قتل حماس ثلاثة فتيان أبرياء باقتراح مصالِح لا مثيل له، هو أن «الهدوء سيُرد عليه بالهدوء»، فما المطلوب عدا ذلك؟، إنه لا ضمانات إلا أن تكون على أساس متبادل، ولا حاجة إليها فى واقع الأمر، لأن إسرائيل لن تهاجم أبداً دون أن يسبق ذلك تحرش فلسطينى»، وأضاف: «إن على إسرائيل الآن أن تظهر أن الإعمار الحقيقى لغزة مسألة إنسانية من الطراز الأول تخدم مصلحتها أيضاً على ألا يكون ثمن ذلك تجديد العدوان العسكرى على صورة قذائف صاروخية على بلدات غلاف غزة، وعلى تل أبيب بعد ذلك، أو بتجديد حفر أنفاق من غزة إلى صوفا وناحل عوز. فنجاح مؤتمر الإعمار مشروط بالتصميم المصرى على منع حماس من الاستمتاع بسخاء العالم. وإن من مصلحة الفلسطينيين فى القطاع أن يزيح أبومازن خالد مشعل وإسماعيل هنية إلى هامش الساحة».