بروفايل| "شارل ماسبيرو".. من مترجم هيروغليفي إلى أشهر مبنى في مصر
من نقوش المسلة المصرية بميدان الكونكورد الفرنسي، ومن الآثار القديمة التي تزين متحف اللوفر بباريس، درس تعاليم الحضارة المصرية القديمة، ولغاتها وآدابها، كان طفل لا يزال في الـ14 من عمره، تعلم اللغة الهيروغليفية، بعد أن التحق قبلها بعام واحد بمدرسة الأساتذة العليا بفرنسا.
لم يكن حبه لمصر وولعه بحضارتها والمحافظة عليها صغيرا، لذللك استحق عن جدارة أن يطلق اسمه على أهم مكان مؤثر في مصر، فكان "ماسبيرو"، مبنى الإذاعة والتليفزيون ومنطقة سكنية شاملة، مأخوذًا من جاستون كاميل شارل ماسبيرو، أشهر العلماء الفرنسيين في علم المصريات.
ماسبيرو الذي ولد لأبويين إيطاليين، بفرنسا، نال كبرى الدرجات العلمية وهو لا يزال في سن صغيرة، وفاز بالمسابقة العامة للأدب، وكان للعالم أوجوست مارييت كبير الأثر في تكوين ماسبيرو العلمي في مجال المصريات، فعقب التحاقه مباشرة، بمدرسة الأساتذة استطاع ماسبيرو ترجمة نصين هيروغليفيين، في غضون أسبوع واحد، ما أثار اعجاب مارييت، حيث كان ماسبيرو في سن صغيرة حينها.
ذاع صيت العالم الصغير في الأوساط العلمية، بعد ترجمته لنصوص هيروغليفية جديدة وصعبة، فشق مجاله بقوة منذ الصغر، أهله ليكون ضمن علماء الكوليدج دي فرانس، بمجال علم المصريات، ولم يمنعه عن منصب رئاسة القسم إلا صغر سنه، ولكن لتفوقه، تم منحه لقب أستاذ مساعد لمدة يومين فقط، شغل بعدها المنصب عام 1874.
ماسبيرو الذي ولد في 23 يونيو 1846، جاء مصر وهو في الـ35 من عمره، ليشغل منصب رئاسة مصلحة الآثار المصرية وأمانة "الأنتيكخانة"، المتحف المصري آنذاك، وهي المؤسسات التي شكلها أوجوست مارييت الذي كان له دور كبير كذلك في اكتشاف آثار مصرية نادرة، وله يرجع اكتشاف مدفن السرابيون، وبعد وفاته بـ13 يوما تولى ماسبيرو اتمام إنجازاته والإضافة إليها، وكان ذلك 19 يناير 1881.
توسع في أعماله وكأنه مصري يخشى من سرقة وتلف آثار بلاده، له يرجع السبق في تأسيس المعهد الفرنسي للآثار، الذي شمل دراسة الآثار الإسلامية والقبطية بجانب الفرعونية، أكمل حفريات مارييت في سقارة، وتوسع بها عند تمثال أبو الهول بالجيزة، فأزال الرمال عنه بقدر 20 مترا بحثا عن المقابر، التي اهتم بها اهتماما كبيرا، بخاصة التي تحتوي منها على نصوص تثري اللغة الهيروغليفية ودراستها، وله يرجع الفضل في اكتشاف 4000 نص هيروغليفي.
كان ماسبيرو يتقن اللغة العربية ما سهل عليه مهمة العيش في مصر، التي كانت حينها مطمع تجاذبه الإنجليز تارة والفرنسيين تارة أخرى، إلا أن شغفه بالآثار وضعه في مكان متميز لدى المصريين، فقد أكمل حفر معبدي إدفو وأبيدوس، واكتشف خبيئة بمعبد حتشبسوت بالأقصر، تحتوي على مئات التماثيل المنتمية لعصور فرعونية مختلفة، ومومياوات أحمس الأول، وسقنن رع، وتحتمس الثالث، وسيتي الأول، وهو من أعاد ترتيب المتحف المصري ببولاق، ومن ثم نقل محتوياته إلى متحف القاهرة الحالي.
ليس الاكتشاف وحسب، وإنما المحافظة على الآثار وحمايتها من السرقة والتلف، كانت مهمة ماسبيرو، فسن قانونا عام 1912، كي لا ينقب عن الآثار إلا البعثات العلمية، فقد كانت متاحة للجميع ومن ينقب عن الآثار له نصفها، كما لا يسمح بمنح تأشيرة الخروج للبعثات الأجنبية إلا بعد ترك موقع التنقيب بشكل مرضٍ، وهو الأمر الذي أدى لغضب مهربي الآثار للخارج وتجار الآثار بالداخل، كما فرض رسوم على مشاهدة المناطق الأثرية للصرف على عمليات البحث والتنقيب.
كانت مصر حينها تحت حكم الخديو إسماعيل التابع للحكم العثماني، واحتلت إنجلترا مصر بينما كانت إدارة الآثار ودواوينها وأعمالها بيد الفرنسيين، ما أدى لكثير من المشكلات بين الجانبين، وبعد أن نجح ماسبيرو في القبض على أكبر عصابة لمهربي وسارقي الآثار، وهي عائلة عبد الرسول، قدم ماسبيرو استقالته عام 1892، لكنه عاد بأمر الممثل الفرنسي بمصر عام 1899، وأكمل أعماله ليرحل عن مصر بشكل نهائي عام 1914.
سنتان فقط هي المدة التي صمد فيها ماسبيرو بعيدا عن مصر وآثارها، فبعد عودته إلى بلده الأم، عين في منصب المستشار الدائم لأكاديمية الفنون والآداب، ومات ودفن بفرنسا عام 1916 عن عمر 70 عامًا، لكن مصر تذكرته بتخليد اسمه على أكبر مبانيها أهمية في قلب العاصمة.