"محمد محمود" في انتظار القصاص الذي لا يجيء
"شمس الثورة قوية قوية وهاتبعد كل الأعداء، مصر شباب طالبين حرية، والحرية من الشهداء"، كلمات تغنى بها الآلاف من المصريين الذين مكثوا أيامًا بلياليها في شارع سقطت فيه دماء 45 ممن حلموا بتحقيق أهداف ثورتهم قبل 3 سنوات، وراحت فيه أعين كانت تنظر إلى مستقبل باهر وتغمض عن ماضٍ كان اليأس أبرز معالمه.. ذلك هو شارع "محمد محمود"، أو عيون الحرية سابقًا.
المواقف إزاء "محمد محمود" كانت متباينة، الدولة كانت تسعى لتبرئة نفسها مما يحدث، ورغم سقوط عشرات الإصابات خلال أحداث شارع محمد محمود، كان وزير الداخلية ،آنذاك، اللواء منصور العيسوي، يؤكد أن "إطلاق الرصاص لم يحدث على الإطلاق، ولم تطلق الداخلية رصاصة خرطوش أو رصاصة رش واحدة وكل ما تستخدمه الغازات المسيلة للدموع"، فيما كانت العديد من وسائل الإعلام تفرد ساعات من وقتها للحديث عن متظاهري محمد محمود، فتارة يصفونهم بالبلطجة والبطالة وفقد الأهلية، وتارة يصفونهم بالانسياق وراء جهات تستهدف هدم البلاد، ولم يبحث عن قصاصهم إلا ذووهم ومن آمنوا بقضيتهم.
"فين حق ابني، مين اللي هايربي عياله اللي واحد فهم أول سنة في ابتدائي"، بصوت لم يفارقه الحزن، تتحدث الحاجة فاطمة حسن عن ولدها أحمد وحيد، الذي استشهد ليلة 20 نوفمبر عام 2011، أثناء وجوده بمحيط شارع محمد محمود لإسعاف المصابين والمساعدة في نقلهم للمستشفى الميداني، أصيب بطلق ناري في قدمه اليسرى، وتأخر نقله لمستشفى الهلال إلى أن دخل في غيبوبة وحاول أهله التبرع له بالدم لتعويض الكميات الكبيرة التي نزفت منه، إلا أنه فارق الحياة تاركًا وراءه أطفالًا صغارًا وزوجة وأم و7 بنات كان هو شقيقهن الوحيد.
الشهيد أحمد وحيد تحوَّل، بحسب والدته، إلى مجرد ذكرى يحييها الصحفيون من خلال المجيء لبيته وتصوير أسرته وأولاده واستعادة المشاهد الأليمة التي تعصر قلبها، "مفيش حد بيعمل حاجة عشان حق ابني يرجع، ما هما مش حاسين بقلب أم فقدت ابنها وهو في عز شبابه"، بعض منظمات المجتمع المدني قررت عدم التخلي عن الأسرة ومساعدتها قدر المستطاع، لكنها أكدت، في الوقت نفسه، أن الدولة لم تعطها حتى "كشك" صغير لتسترزق منه الأسرة الجريحة.
لجنة تقصي الحقائق التي تم تشكيلها عقب عام من أحداث محمد محمود لم تعلم عنها الأم شيئًا، فقدت الأمل تمامًا في أن ترى قصاص ابنها في الدنيا، "أنا مستنية حقه من ربنا، هو اللي هيحاكم اللي قتلوه، أحمد كان محترم وكويس، ومش هقول غير حسبي الله ونعم الوكيل"، وفقًا لكلامها.
جماعة الإخوان لم تخرج من المشهد خلال أحداث محمد محمود، وكانت العامل المشترك في إحياء الذكرى لعامين من بعدها، وأمر مرشد الجماعة محمد بديع، أثناء أحداث محمد محمود، أعضاء الإخوان بعدم النزول والمشاركة في تلك الأحداث "لأن نزولهم بمثابة المفسدة الأكبر"، وأن رأيه في تلك الأحداث أنها محاولة لإشعال فتنة ويريد البعض أن يكون الإخوان هم حطبها، وأكد أن نزول الإخوان لن يكون إلا بسبب "تعطيل انتخابات برلمان 2011 أو أي تلاعب بالدستور"، الموقف تزداد حدته مع الذكرى الأولى لأحداث محمد محمود الأولى التي لحقت وصول الجماعة للحكم، فيخرج مختار العشماوي مسؤول اللجنة القانونية بحزب الحرية والعدالة، قائلاً إن المتظاهرين الموجودين في شارع محمد محمود بلطجية، وكأن الأنظمة تتسابق لإلصاق ذلك الاتهام بهم، بينما ينقلب الموقف رأسًا على عقب مع حلول الذكرى الثانية لشارع "عيون الحرية"، فينزل أعضاء الإخوان الذين تبرأوا من محمد محمود، ليطالبوا بقصاص الشهداء الذي عجز أحدهم أثناء توليه رئاسة البلاد في الإتيان به.
"جثة ابني اتحطت جنب الزبالة"، مشهد استرجعه الدكتور أحمد الدكروري، والد الشاب شهاب الدين، الذي استشهد مساء الأحد 20 نوفمبر 2011 خلال ثاني أيام أحداث محمد محمود، حين اقتحم الجيش ميدان التحرير وحاول فضه من المتظاهرين: " ابني مات مخنوق من الغاز اللي كانوا بيرموه على الولاد ساعتها، ولما وقع كان في نص الشارع، وكل اللي عملوه إنهم سحبوا الجثة وركنوها"، يتذكر والد شهاب ابنه الفقيد بكلمات حزينة.
لم يسعَ أحد، خلال الفترة الأخيرة، لإعادة حق شهاب، وفقًا لوالده، مضيفًا: "كله بيتكلم وخلاص من غير ما يعمل أي حاجة، حتى الإخوان اللي بيقولوا على حق الشهداء ما كانوش عايزين ده، لكن كانوا بيتاجروا بيهم وبس".
الدكروري لم يفقد الأمل في عودة حق ابنه الشهيد، رغم يأسه من تقديم أي ممن قتلوا ولده للمحاكمة: "دم ابني في رقبة اللي كانوا بيحكموا البلد ساعتها، وربنا هيجيب حقه لو ماجاش في الدنيا يبقى هييجي في الآخرة".
الذكرى الثالثة لأحداث محمد محمود تأتي في أجواء سياسية متوترة، مشهد يكتفي بجماعة لم تكف، على مدار أكثر من عام، عن ممارسة العنف ضد الدولة، ودولة ترى أنه لا صوت يعلو فوق صوت محاربة الإرهاب، ورأي عام انتشرت فيه اتهامات لثورة يناير وثوارها وكل ما تبعها من أحداث بالتآمر لإسقاط الدولة المصرية، ليبقى سؤال واحد لم يجد الرد عليه: "هل سيأتي القصاص؟".