20 عاماً على محاولة الاغتيال: وانكسر«نصل» الإرهاب
فى الوقت الذى اعتاد الخروج فيه، حينما كانت تميل الشمس للغروب، وتبدأ الحركة فى السكون، لتهدأ الضوضاء بشوارع القاهرة، يتجاذب أطراف الحديث الأدبى مع أصدقائه، بخطواته المحسوبة، ووجهه الوقور حيث ارتدى نظارته التى تقبع خلفها عينان داكنتا اللون تتفحصان كل ما حوله بهدوء، وأسفلهما ابتسامة بسيطة زينت وجهه، اتكأ على عصاه الملازمة له دائماً، فى انتظار صديقه «فتحى هاشم» ليقله من منزله إلى ندوته، وسرعان ما فتح له باب سيارته حمراء اللون، ليجلس فى مكانه بجواره، إلا أنه فوجئ بطعنة مباغتة فى عنقه، من حيث لا يدرى، فإذا به يصرخ لأول مرة من هول الألم.
صرخة واحدة منه، كانت كفيلة بتفجير مشاعر الخوف والهرج فيمن حوله، الذين ركضوا مسرعين لاصطحاب «نجيب محفوظ» إلى مستشفى الشرطة بالعجوزة، المجاور لمنزله لسرعة إسعافه، حملوه إليه بينما لم تكف نافورة الدماء التى خرجت من عنق الأديب مخضبة ملابسه وملابس حامليه بلون أحمر، كان ينذر حينها باحتمال مفارقة أحد عمالقة الأدب للحياة فى صمت تام منه، كان ذلك مساء الجمعة 14 أكتوبر 1994، وكان نبأ محاولة الاغتيال بمثابة المفاجأة، فامتلأ المستشفى بالأصدقاء والأهل والمحبين انتظاراً لخروج «الأستاذ» بالسلامة.
«لم يجِئهم الموتُ كمَا أوهمهُم.. أراهم وجهَه، ولكن لم يذِقهم طعمَه».. كلمات كتبها «محفوظ» فى روايته الشهيرة «خان الخليلى» قبل الحادث بنحو 18 عاماً، ولم يعلم أنه سيعايشها يوماً ما لتكون محاولة اغتياله علامة فارقة ومؤثرة فى حياته. بصوت متهدج يغالبه كبر السن، وكلمات تتباعد عن بعضها، فى محاولة لتذكر تلك الليلة السيئة، التى حاول فيها شابان اغتيال الروائى المصرى «نجيب محفوظ»، لاتهامه بالإلحاد فى روايته «أولاد حارتنا»، التى نالت نصيبها من الجدل والرفض، قال «هاشم» لـ«الوطن»، إنه ليلة الحادث كان فى طريقه لاصطحاب الأستاذ، بسيارته الخاصة من منزله بالعجوزة، إلى أحد اللقاءات الثقافية التى اعتاد الذهاب إليها، وبعد أن أجلسه فى مكانه بالسيارة، تاركاً الزجاج مفتوحاً حتى تمرّ نسمات الهواء العليل بداخل السيارة، تفاجأ بصرخة ألم من «محفوظ» وشاب يركض فى اتجاه مخالف، «فركضت خلفه إلا أننى لم أستطع الإمساك به، فعدت للسيارة، ووجدت الدماء تغرق الأستاذ، فاعتقدت فى بادئ الأمر أنها فرع خشب أو شجرة، ولم أعلم أنها مطواة إلا بعد أن أزلتها من عنقه، وهذا كان خطأ منى»، حيث تبين فيما بعد أنها كانت «مطواة».
وتابع «هاشم» أنه ذهب مسرعاً إلى مستشفى «الشرطة» المقابل لمنزل «محفوظ» بالعجوزة، فاستقبله الأطباء بحالة من الذهول والقلق، وأدخلوه غرفة العمليات على الفور، مضيفاً أن الدكتور عادل إمام، المتخصص فى الأوعية الدموية، جاء إلى مقر المستشفى متطوعاً وأجرى له العملية، بمجرد إذاعة النبأ على قنوات الإذاعة والتليفزيون، كما جاء العديد من الشخصيات البارزة منهم مديرا أمن القاهرة والجيزة، وعدد من أصدقائه وعلى رأسهم جمال الغيطانى ويوسف القعيد.
وتابع هاشم، متخذاً نفساً عميقاً ليذيب به مشاعر ذلك الوقت المشئوم، بعد مرور ما يقرب من 18 عاماً عليه، والذى وجهت إليه الاتهامات بمحاولة القتل فى بداية التحقيقات، حيث نصت «إننى جئت مدعياً إصابته بالطعن فى عنقه».
وأكمل حديثه بأن محاولة الاغتيال كانت بمثابة الفاجعة لأسرته من قوة الحادثة التى أدت لقطع الوريد الأيمن بعنقه، كتبت له الحياة بعدها بيد الله عز وجل، وقد مكث على أثرها فى المستشفى لشهر كامل للتعافى، مشيراً إلى أنه فى هذه الأثناء تلقى العديد من الزيارات من مختلف الشخصيات المجتمعية المهمة من سفراء الدول والأدباء وغيرهم، فضلاً عن السيدة سوزان مبارك، مضيفاً أن محمد الغزالى الذى كان واحداً ممن طالبوا بمنع نشر «أولاد حارتنا» وعبدالمنعم أبوالفتوح القيادى السابق فى جماعة الإخوان، قد زاراه فى المستشفى، وهو ما تسبب فى هجوم قوى عليهما.
«تأثرت حالته النفسية بدرجة كبيرة عقب الحادث، ما استدعى متابعة الدكتور يحيى الرخاوى له، الذى تدخل متطوعاً، وأعد له برنامجاً طبياً، يتضمن الخروج يومياً ليغير الجو» هكذا أوضح صديق «محفوظ» المقرب مدى تأثره بالحادثة، وأنه قد عاد لطبيعته تدريجياً بنفسه بعد ما يزيد على شهر.
وعما قاله محفوظ عمن حاولوا اغتياله، أضاف هاشم نقلاً عن «محفوظ»: «كان من الممكن للجانى أن يصبح بطلاً رياضياً، أو شخصاً مفيداً لوطنه بدلاً من تضليله هكذا وتوجيه الاتهامات بالكفر والإلحاد»، مؤكداً أن الأديب كان متعاطفاً معهم وأنهم لم يبادروا بقراءة رواياته من قبل.
خمسة عشر شخصاً ينتمون للجماعات الإسلامية المتطرفة، قدموا للمحاكمة بتهمة محاولة اغتيال الأديب «نجيب محفوظ»، وتراوحت الأحكام الصادرة ضدهم ما بين الإعدام والمؤبد والسجن من خمسة عشر عاماً إلى ثلاثة أعوام، وكنتيجة لتلك الحادثة، لقى الشابان مصيرهما بالإعدام شنقاً، وهما محمد ناجى مصطفى، 21 عاماً، الذى أدين بتهمة طعن محفوظ، والثانى محمد أبوالفرج المحلاوى، 22 عاماً، بتهمة المشاركة وتعقب الأديب المصرى قبل محاولة اغتياله، واللذان أكدا فى نص التحقيقات، أنهما كانا مخطئين فى فعلتهما هذه، وأنهما لم يكونا على وعى بخطئهما.