من داخل "الرقابة الدوائية":أجهزة تحاليل تُستخدم كـ«حامل» لأكواب الشاى
لم تكن قد أتمت عامها الرابع بعد حين أصابتها نزلة برد حادة، ولصغر حجمها وضعف مناعتها تطور الحال لتصبح من مرضى الالتهاب الرئوى، لم تحتمل راندة وليد الألم، لتصبح على صغر سنها من رواد المستشفيات بصورة دائمة، مر عامان على إصابة الصغيرة والألم لا يزال يشطر رئتيها، يبحث الأب فى كل الصيدليات المحيطة به عن ذلك الدواء الذى سطره الطبيب فى روشتته العلاجية، لكن شيئاً لم يتغير، عامان والصغيرة تتألم والأسرة بأجمعها تبحث لها عن مخرج ينهى قصتها مع ذلك المرض اللعين، الذى يطاردها بين الحين والآخر، فى لحظة حاسمة قرر الأب، الذى يعمل بدوره فى أحد فروع الرقابة الدوائية، البحث عن سبل جديدة لإنقاذ صغيرته، لم يجد سوى اللجوء إلى علاجها بالأدوية المستوردة التى طلبها من صديق له كان فى إحدى البلاد الأجنبية فى سفرية عاجلة، لتتوقف الصغيرة عن الشكوى بعد تناولها العلاج المطلوب، وتستعيد عافيتها بعدما خلصها الدواء الأجنبى من أوجاعها فى ثلاث جرعات متتالية بحسب تأكيد والدها، هنا يشعر الأب بمرارة ما مر به طيلة عامين مع صغيرته التى لم يعالجها الدواء المصرى مثلما الحال فى الدواء الأجنبى الذى يعطى نتائج حقيقية وفعالة. رحلة طويلة مر بها الدكتور وليد وفيق رئيس معمل البيوتكنولوجى بالمركز القومى للرقابة والبحوث الدوائية، لكن الألم لم يكن مع صغيرته وحدها، فثمة ألم آخر يشعر به تجاه واجبه المهنى ودوره الذى لا يقوم به، يقول وليد: «إحنا دورنا رقابى وحتى الآن لم يعرض علىّ أى نوع من أنواع الأدوية التى ينبغى أن أراقبها والتى من بينها الأنسولين والإنترفيرون والسوفالدى، وغيرها من الأدوية المهندسة وراثياً».[FirstQuote]
وفيق الذى تخرج فى كلية الزراعة قسم الهندسة الوراثية، التحق بالهيئة العامة للرقابة الدوائية قبل 13 عاماً ماضية، يستهل حديثه عن مهمته داخل الرقابة بقوله: «لدينا معمل كبير مجهز بكافة الأجهزة التى تمكننا من مراقبة الدواء ولكننا لا نقوم إلا بعمل أبحاث فقط، وحتى الآن لم نقم بدور رقابى على مثل هذه الأدوية رغم أنه فى صميم تخصصنا».
فى غرفة طويلة تملأها الأجهزة والمعدات الحديثة بعضها لم يعمل بعد، رغم بقائه لسنوات طويلة فوق طاولة رخامية تم تثبيتها بجوار حائط الغرفة، وبعضها رغم عمله تغطيه ذرات التراب لتترك بداخلك شعوراً بأنها لم تعمل هى الأخرى، يجلس الدكتور وليد وفيق فى معمله الخاص بـ«البيوتكنولوجى» يحاول جاهداً العمل على بعض أبحاثه العلمية التى بدأها منذ سنوات، غالباً ما يصل إلى نتائج مهمة تنتهى بنشرها فى دوريات علمية، ثمة شعور من اليأس يتسلل إلى نفس الدكتور وفيق الذى بادر بمخاطبة رئيس الهيئة القومية للرقابة والبحوث الدوائية، يطالبه بعمل دوره الرقابى فى مراقبة نوعيات الدواء التى تدخل فى صميم تخصصه، لكن رئيس الهيئة يأبى أن يمنحه جواباً يثلج صدره، لتظل الأجهزة على ارتفاع ثمنها، والمقدرة بنحو 5 ملايين جنيه بحسب ما أكده وفيق، محدودة فى عملها، وبعضها لم يعمل من الأساس، نظراً لعدم توفير المواد اللازمة لتشغيله، وبعضها يقتصر دوره على عمل بعض الأبحاث العلمية.
«وفيق» يصف ما يحدث فى إدارة الهيئة بـ«الرؤية الغائبة»، التى باتت أمراً طبيعياً فيها، على حد تعبيره: «بقالى 13 سنة فى الهيئة وحتى الآن لم أعمل الدور المطلوب منى، وهذا ليس تقصيراً منى ولكنه تجاهل لهذا الدور».
«آليات العمل داخل الهيئة باتت مختلطة وغير مفهومة» هكذا يصف «وفيق» ما آل إليه الوضع فى الهيئة إذ إنها أعلنت عن وظائف شاغرة فى 17 نوفمبر 2013، وكان هو قد طالب رئيس الهيئة بحاجته إلى تعيين باحثين جدد فى مجال البيوتكنولوجى، لكن ما حدث هو اختيار مجال فسيولوجيا النبات وهو تخصص لا علاقة له بمعامل الهيئة، مثلما أوضح المتقدمون إلى الوظيفة فى شكوى رسمية إلى رئيس الهيئة، وهو ما أكده «وفيق» الذى أبدى استغرابه لتعيين خريجى فسيولوجيا النبات وتجاهل خريجى الوراثة والهندسة الوراثية الزراعية وتحديداً البيوتكنولوجى.
اختلاط الأدوار داخل الهيئة صار أمراً عادياً لتصبح نتائج تحاليل بعض أنواع المحاليل مثل الملح والجلوكوز أمراً يسيراً على معامل لا علاقة لها بتلك المهمة، فتظهر نتائج تلك الأنواع من داخل شعبة دراسة الأنسجة أو ما يسمى بالهيستوباثولجى، وهى إحدى الشعب المختصة بمراقبة تأثيرات الدواء على الخلايا والأنسجة والأورام، والتى حصلت «الوطن» على صورة من النتائج التى أنتجتها الشعبة لهذه المحاليل بما يتعارض مع اختصاصها، إذ إن هذا النوع من التحاليل لا يختص به سوى معمل «الخواص الطبيعية» وهو المسئول عن تحليل التركيبات الدوائية للجلوكوز والمحاليل الملحية أو غيرها من الأنواع الدوائية المختلفة، حيث أعضاء الرقابة المختصون بالقيام بتلك الوظيفة، لتصبح النتائج المتوقعة من شعبة دراسة الأنسجة نتائج مشكوكاً فى أمرها وهو ما أكده د. سعيد عبدالعال أستاذ الميكروبيولوجى الذى أشار إلى أن شعبة دراسة الأنسجة لا يمكن أن تقوم بمهمة معمل الخواص الطبيعية، مثلما حدث مؤخراً بعد أن أسند رئيس الهيئة بعض أعمال معمل الخواص الطبيعية إلى شعبة دراسة الأنسجة، وهو ما أدى إلى ظهور نتائج إيجابية لعينات يتم تداولها مباشرة فى الدم، بصورة تدفع للتشكيك فيها، على حد وصفه.[SecondImage]
ويتابع الدكتور «سعيد»: «إن التخصص مهم جداً فى الحصول على نتائج جيدة وعدم التلاعب بالنتائج المتعلقة بالأدوية والمحاليل» لافتاً إلى أن إسناد تحاليل المحاليل الملحية أو الجلوكوز إلى شعبة دراسة الأنسجة أمر فى غاية الخطورة، إذ إنه قد يتسبب فى ظهور نتائج غير حقيقية خاصة أن القائمين على العمل داخل الشعبة غير متخصصين فى الرقابة على المحاليل، لافتاً إلى وجود مشكلة كبيرة فيما يتعلق بـ«الكاليريتى» أو نقاء المحلول من العكارة أو الشوائب الموجودة به، إذ إن هذه النتيجة تختص بها لجنة مختصة ومعروفة يشكلها رئيس مجلس الإدارة، وتحمل نفس الاسم «الكاليريتى» وهى الوحيدة المنوط بها إعداد نتائج الشوائب فى تلك المحاليل، وأشار «عبدالعال» إلى أن ما يحدث داخل الهيئة كارثى ويحتاج إلى استعادة كل شعبة تخصصها حتى لا تتعرض حياة المواطنين للخطر، لافتاً إلى أن نتيجة التحاليل التى أخرجتها شعبة الأنسجة قد تتسبب فى خطر داهم لحياة مستخدميها، إذ قد تسبب الوفاة مباشرة لأنها مواد تدخل على الدم مباشرة.
فيما أكد «عبدالعال» أنه سيناقش أزمة تولى شعبة الأنسجة تلك التحاليل على عكس مهامها العلمية المنوطة بها، فى اجتماع الشعبة العامة التى كان يتولى رئاستها فى السابق.
وأضاف: «شعبة الأنسجة لا ترأسها متخصصة فى الرقابة على المحاليل، وبالتالى ما حدث خطأ بكل المقاييس، ومهما كانت النتائج حتى إن تصادف صحتها فهى محل شك ولا بد ألا تؤخذ فى الحسبان».
فيما قال الدكتور حسن السبيرى الأمين العام لنقابة أعضاء هيئة الرقابة الدوائية إنه ينبغى أن يتولى رئاسة المعامل والشعب العامة والشعب الفرعية متخصصون فى مجالاتهم دون الالتفاف على القانون رقم 49 الخاص بتنظيم العمل داخل الهيئة، وطبقاً لقرار إنشائها باعتبارها مؤسسة علمية، ولفت إلى ضرورة تولى رئاسة الهيئة مختص بالبحوث والرقابة الدوائية حتى يتسنى له فهم طبيعة العمل لكل شعبة وكل تخصص».
وأشار «السبيرى» إلى أنه لا يصح أن تكون هيئة بقيمة الرقابة والبحوث الدوائية، الهيئة المعنية بالرقابة على كافة أنواع الأدوية ومستحضرات التجميل، لا يتم تعيين رئيس لها منذ 30 عاماً فكل من تولى مهمة الرئاسة كان بقرار ندب أو إعارة، وهو ما أضعف من الوضع التخصصى داخل الهيئة، حيث إن المنتدب أو المعار لا يتسنى له وضع خطط تطويرية داخل الهيئة نظراً لقصر فترة توليه الإدارة بالصورة التى تمنعه من متابعة ما وضعه من خطط.
وأوضح «السبيرى» أن هناك تضارباً فى تسكين الدرجات العلمية إذ تم منح درجة علمية فى الميكروبيولوجى لباحث فى الطفيليات ويعمل فى شعبة الطفيليات، وهما تخصصان مختلفان تماماً علمياً، ونوعية الدراسة لكلا التخصصين مختلفة، وهو ما دفعه للتساؤل: هل الدرجات العلمية يتم شغلها بالمحاباة؟ كما أن التوصيف الوظيفى لأعضاء الهيئة والعاملين غير معلوم فالأدوار مختلطة داخل الشعب بصورة تجعلك لا تتفهم طبيعة كل شعبة.
تداخل الاختصاصات ليس وحده ما تعانى منه هيئة الرقابة والبحوث الدوائية، فمخالفة لوائح العمل بالهيئة بات أمراً مألوفاً بداخلها، إذ تتولى رئاسة شعبتى المراقبة والتفتيش على الأدوية الدكتورة إيمان سعد، وهو عكس ما ورد فى لوائح العمل بالهيئة الذى يحظر تولى رئيس الشعبة أى عمل إضافى بجانبه، ويتشابه الأمر مع الدكتورة أمل زين العابدين التى ترأس شعبة النباتات الطبية فى الهيئة وفى نفس الوقت تمارس دوراً آخر فى لجنة التسجيل، إذ تختص بتوزيع العينات على المعامل وهو أمر مخالف للقانون، ويتعارض مع اللوائح التنفيذية بالهيئة، وبخاصة المادة 15.
وهو ما اعتبرته الدكتورة حنان أمين رئيس شعبة التسجيل أمراً عادياً فى ظل احتياجها لمن يقوم بتوزيع الاختصاصات على المعامل، لافتة إلى أن شعبة التسجيل بها صيادلة يقومون باستلام العينات المطلوب تسجيلها من قبل شركات الأدوية لتقوم بعدها المتخصصة فى توزيع العينات على المعامل بتوزيعها، ثم تأتى تقارير من كل معمل لتقوم هى باعتبارها رئيس شعبة التسجيل بعمل التقرير النهائى للمنتج المراد تسجيله، وهى إجراءات ليست بالعادية بحسب ما أكدته «أمين»، لافتة إلى أن «تسجيل الأدوية الجديدة ليس ضرورياً أن يمر على معامل لفحصه لأنه بالفعل تم عمل اختبارات عليه فى بلاده التى أنتجته، وهو ما حدث مع السوفالدى، وبالتالى لسنا بحاجة إلى إجراء تحاليل عليه فيتم تسجيله دون عمل أى تحاليل».
الدكتور أسامة البدارى رئيس الهيئة القومية للرقابة والبحوث الدوائية، يرى أن تولى الدكتورة إيمان سعد لرئاسة شعبتى المراقبة والتفتيش على الأدوية ما هو إلا إجراء استثنائى رغم أنه مخالف لقواعد ولوائح الهيئة، لافتاً إلى أنها تقوم بدور إشرافى فقط على شعبة المراقبة لحين تعيين رئيس لها، خاصة أنها تقوم بعمل تدريب لأعضاء تلك الشعبة، لحين اختيار رئيس لها، وأشار إلى أنها رئيسة شعبة التفتيش، وكلا الدورين مختلف نسبياً، إذ إن شعبة المراقبة لها دور رقابى على الدواء المستورد فى حين أن «التفتيش» تقوم بتحليل الأدوية المحلية والمستحضرات الطبية فقط، ويكون ذلك عبر وسائل معينة تأتيها من قبل إدارة الصيدلة بوزارة الصحة، وذكر «البدارى» أن بعض التعيينات التى لا علاقة لها بالتخصصات ليست بالأمر العسير، فتعيين خريجة من معهد التعاون الزراعى فى معمل البيوتكنولوجى لا يعنى كونها ذات تعليم متوسط، فذلك المعهد من المعاهد العليا ولا توجد أزمة فى ذلك، موضحاً أن وجود الدكتورة أمل زين العابدين فى شعبة التسجيل بالإضافة إلى رئاستها لشعبة النباتات الطبية لا يمثل أى مخالفة قانونية، فبحسب كلامه أنها لا تقوم بعمل إدارى فى شعبتين وأنهم فقط يستفيدون من خبرتها فى شعبة التسجيل، على الرغم من أن اللائحة الداخلية للهيئة تمنع الجمع بين شعبتين، وهو أمر يعتبره البدارى ليس بالمخالفة كما يظنه البعض، لكنه يؤكد أن نتائج التحاليل التى أنتجتها شعبة دراسة الأنسجة رغم أنه فى غير تخصصها، أمر استثنائى، إذ يرى أن شعبة دراسة الأنسجة بها رقابيون يستطيعون إظهار نتائج تحاليل الجلوكوز، رغم اعترافه بأنه فى صميم تخصص شعبة الخواص الطبيعية وأن النتائج التى أظهرتها شعبة دراسة الأنسجة، مشيراً إلى أنها هى التى طالبت بعمل ذلك الدور الرقابى. وكشف البدارى أن ما يسمعه بين الحين والآخر عن ضبط أدوية مغشوشة فى السوق المصرية يشعره بالحزن.
أمراض كثيرة يعجز الدواء المصرى عن ردعها، بل قد يطول الحال لسنوات مثلما مرت «راندة» بالتجربة، لتعيش معاناة دامت لعامين متواصلين دون أن يقهر الدواء مرضها، ليضطر والدها للجوء إلى الأدوية المستوردة باعتبارها الأكثر فعالية، هنا يشير «البدارى» إلى أن المادة الفاعلة لا تختلف عن مثيلاتها من الأجنبى وأن ما يتعلق بكون تلك الأدوية غير فعالة ما هو إلا شائعات لا أساس لها من الصحة، لتظل «راندة» وغيرها ممن تضطرهم ظروف حياتهم لشراء الدواء المصرى، يعانون من طول فترات المرض وعدم شعورهم بفائدة ملموسة لدواء انتهت بياناته بعبارة «صنع فى مصر».
المتقدمون للوظائف يشكون من اختيار تخصصات غير موجودة بالهيئة
صورة توضح تحليل الجلوكوز فى معامل غير مرخصة