بروفايل| إبراهيم ناجي.. طبيب "الأطلال" يدوي جراح حب صباه
ملامح صارمة وصوت قوي، تقف الفنانة أم كلثوم على خشبة المسرح أمام حشد من الحضور، لتنشد أغنيتها الشهيرة "الأطلال"، بعد مرور 13 عامًا على وفاة شاعرها إبراهيم ناجي، لتمثل النهاية المناسبة للقصة الحقيقية وراء تأليف هذه القصيدة.
في إحدى الليالي الشتوية وبينما كان إبراهيم ناجي منشغلًا بقراءة كتب الطب حيث دارسته، في محاولة منه لنسيان قصة حب صباه، يسمع طرق باب منزله، حيث رجل يريد طبيبًا لمساعدة زوجته في الولادة المتعسرة، فيسارع ناجي الطبيب الشاعر في ارتداء معطفه، ومرافقة الرجل الغريب حيث زوجته المريضة، ليفاجأ أن زوجته تلك هي محبوبته القديمة، ليدب الهوى في عروقه من جديد ويستدعيه الوجدان، وبعد أن يعالجها يقرر أن يعتكف على كتابة قصيدته.
"يا فؤادي لا تسل أين الهوى.. يا فؤادي رحم الله الهوى"، يصفق الجمهور بحرارة لغناء أم كلثوم، دون أن يدركوا ما وراء هذه القصيدة من آلام استطاع أن يصورها إبراهيم ناجي ابن حي شبرا بالقاهرة المولود في مثل هذا اليوم 31 ديسمبر عام 1898، والذي ورث عن والده شغفه بالقراءة وتعلم اللغات فأتقن الإنجليزية والفرنسية والألمانية، ليتخرج من مدرسة الطب عام 1922.
عين بعد تخرجه طبيبًا في "وزارة المواصلات"، ثم في "وزارة الصحة"، و بعدها عيّن مراقبًا للقسم الطبي في "وزارة الأوقاف" وآثر التقاعد في سن مبكرة بعد تدهور حالته الصحية وتفرغ لعيادته الخاصة، واشتهر عنه أنه كان يعالج المرضى الفقراء بلا أجر.
بدأت قصة شاعر الأطلال مع الشعر عام 1926 عندما بدأ يترجم بعض أشعار الفريد دي موسييه وتوماس مور شعرًا وينشرها في جريدة "السياسة" الأسبوعية، ثم ينضم لـ"جماعة أبوللو" الشعرية عام 1932، والتي أصبح وكيلًا لها، وأفرزت هذه المدرسة نخبة من الشعراء المصريين والعرب الذين استطاعوا تحرير القصيدة العربية الحديثة من الأغلال الكلاسيكية والخيالات والإيقاعات المتوارثة، وتأثر ناجي في شعره بالاتجاه الرومانسي كما اشتهر بشعره الوجداني.
ومن أهم أعمال الشاعر الأدبية ترجمة بعض الأشعار عن الفرنسية للشاعر "بودلير" تحت عنوان "أزهار الشر"، كما ترجم عن الإنجليزية رواية "الجريمة والعقاب" للأديب "ديستوفسكي"، وعن الإيطالية رواية "الموت في إجازة"، كما نشر دراسة عن شكسبير.
تعرض ناجي لهجوم عنيف بعد صدور ديوانه الأول من الأديبين عباس محمود العقاد وطه حسين، وذلك بسبب ارتباطه بجماعة أبوللو، حيث وصف عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين شعره بأنه "شعر صالونات لا يحتمل أن يخرج إلى الخلاء فيأخذه البرد من جوانبه"، وعندما قرأ ناجي ذلك النقد وكان وقتها في لندن، شعر بخيبة كبيرة، وبينما كان يجتاز أحد الشوارع هناك، صدمته سيارة، فنقل إلى المستشفى، ولبث فيه مدة، وإضافة إلى ذلك كان يعاني من داء السكري.
رجع إلى مصر يائسًا من الشعر والأصدقاء، وأخذ يكتب قصائد الهجاء في هذا وذاك، بل أخذ يترجم ويكتب القصص، فكتب قصة "مدينة الأحلام"، تحدث فيها عن حبه الأول، ونشرها مع قصص أخرى مؤلفة ومترجمة في كتاب يحمل العنوان نفسه، قال في مقدمته: "وداعًا أيها الشعر، وداعًا أيها الفن، وداعًا أيها الفكر"، وعاشت هذه المحنة في أعماقه فترة طويلة حتى توفى في 24 مارس من عام 1953.