«التحكيم الدولى»: الحكومة تفشل.. والشعب يدفع الثمن
ستبقى قضية التحكيم الدولى حول أحقية مصر فى مدينة طابا ضد إسرائيل إحدى العلامات المضيئة القليلة فى تاريخ المنازعات الدولية المصرية أمام هيئات التحكيم الدولى، وتليها قضية الشركة القابضة للسياحة حول أرض «إيجوث» ضد مجموعة «هلنان شبرد» العالمية بعد ماراثون استمر 5 سنوات، وهما القضيتان اللتان فازت بهما مصر من بين 37 قضية تحكيم دولى. وقال أحد أعضاء الفريق القانونى، الذى خاض غمار مفاوضات «طابا» مع الجانب الإسرائيلى، ورفض ذكر اسمه، إن «أسباب النجاح فى طابا هى نفس أسباب الفشل فى القضايا الكثيرة التى خسرتها مصر، المتمثلة فى الجهل بإجراءات التحكيم الدولى وقوانينه وعدم متابعة القضايا وغياب الكوادر الجيدة، التى تملك الخبرة الكافية فى مثل هذه القضايا».[FirstQuote]
الدكتور شوقى السيد، الفقيه الدستورى، أكد أن الدولة هى التى تتحمل الخسائر الباهظة فى قضايا التحكيم الدولى، وهى التى تتسبب بشكل مباشر فى الخسارة لأنها تتدخل فى هذه القضايا على غير علم. موضحاً فى تصريحات لـ«الوطن» أن قضايا التحكيم الدولى تعتمد على العلم أولاً والخبرة ثانياً والمتابعة ثالثاً وتلك الركائز الثلاث لا تفعلها الحكومة المصرية.
وأوضح «السيد» أن قضايا التحكيم الدولى تختلف عن نظيرتها الأخرى من القضايا وتبدأ خسارتها منذ بداية التعاقد وإبرام الاتفاق بين الحكومة من جانب، وبين المستثمر أو الشركة من جانب آخر، حيث يدرج كبند أساسى فى العقود فى حالة النزاع والخلاف لجوء طرفى التعاقد إلى المحاكم المختلفة، ففى تلك المرحلة يجب على الحكومة اختيار هيئة التحكيم الدولى المناسبة لها والمشهود لها بالنزاهة والشفافية وأن تدرج فى العقد وجهة المحكمة فتلجأ مثلاً إلى مركز التحكم الدولى بالقاهرة أو المحكمة الاقتصادية أو هيئة التحكيم فى فرنسا أو لندن أو مدريد وهى متنوعة وتختلف درجة النزاهة والشفافية بين كل مراكز التحكيم، فعلى الحكومة تحديد ذلك منذ البداية حتى لا تفاجأ بوقوفها أمام مركز تحكيم غير نزيه، فضلاً عن انتقاء المحكمين الدوليين بعناية فائقة بعد بحث ودراسة متأنية، حيث يحق لكل طرف من طرفى التعاقد اختيار محكم دولى إلى أن يتفقا فى النهاية على محكم محايد للطرفين.
ولفت «السيد» إلى أن الدولة أفاقت من غفوتها إلى حد ما، واتخذت قرارين فى غاية الأهمية: أولهما تشكيل هيئة عليا لدراسة وتقديم الرأى فى قضايا التحكيم الدولى المرفوعة من وعلى مصر خلال يوليو من العام الماضى، وتشكيل هيئة عليا برئاسة رئيس الوزراء تختص بإبداء المشورة وتقديم الرأى فى شأن الدفاع عن مصر فى قضايا التحكيم الدولى المرفوعة منها أو عليها وتتولى دراسة كافة القضايا التحكيمية وتحديد الرؤى ومدى قوة وملاءمة الدفاع المصرى، ويكون للهيئة اقتراح التسوية الودية مع الأطراف الأخرى إن اقتضى الأمر، كما يكون للهيئة عقد الاجتماعات للتفاوض مع أطراف النزاع، والثانى تعديل بعض قوانين الاستثمار، وتحديداً القانون رقم ٨ لسنة ١٩٩٧، حيث أقرت قصر الطعن على العقود التى تبرمها الدولة مع المستثمر على طرفى التعاقد فقط أمام المحاكم الاقتصادية والاستثمارية بعد أن كان يحق لأى مواطن الطعن على أى عقد تبرمه الدولة، ما فتح الباب أمام أصحاب النفوس الضعيفة والانتهازيين وراغبى الشهرة فى الطعن على عدد من العقود التى أبرمتها الحكومة على مدى عقدين من الزمان وتسبب ذلك فى بطلان عدد كبير من العقود، خاصة بعد ثورة يناير، ما جعل الدولة غير قادرة على حماية الاستثمارات الأجنبية المباشرة على أراضيها والتى تسببت فى لجوء عدد من المستثمرين سواء المصريين أو العرب والأجانب إلى التحكيم الدولى وأشهرها شركة المراجل البخارية وأوعية الضغط وشركة مصر شبين الكوم للغزل والنسيج والشركة المصرية الكويتية، وكذلك شركة طنطا للكتان والزيوت.[SecondQuote]
وقال الخبير الاقتصادى الدكتور عبدالمنعم السيد، مدير مركز القاهرة للدراسات الاقتصادية والاستراتيجية، عضو لجنة فض المنازعات بالهيئة العامة للاستثمار، إن أغلب المستثمرين لديهم الرغبة فى التصالح وليس التصعيد، وبالتالى فمن غير المنطقى تخاذل الحكومة عن التواصل معهم. وأضاف «السيد» لـ«الوطن» أن أحكام المحاكم الدولية حال صدورها تلزم مصر بدفع التعويضات التى تزيد من الأعباء على الموازنة العامة للدولة، إذ تمثل تلك التعويضات 120% من إيرادات الدولة. وتابع أن عبء الشركات التى أبطلت عقودها واستردتها الدولة من المستثمرين، لا تملك الدولة الموارد لتشغيلها، ولا دفع مستحقات المستثمر، نظراً لما قام به من توسعات وتجديدات بشركته، حيث بلغ عدد القضايا التى أبطلت عقودها ورفعت بها قضايا تحكيم دولى ٧ قضايا على رأسها قضيتا «نوباسيد» و«طنطا للكتان» مع المستثمر السعودى عبدالإله الكعكى، الذى هدد بالتحكيم الدولى قبل أن يتراجع مرة أخرى بعدما لجأت الحكومة إلى التسوية مؤخراً لتجنب التحكيم الدولى بالتسوية مع «الكعكى» وهو ما فشلت فيه مع باقى المستثمرين التى لا تزال قضاياهم منظورة أمام هيئة فض المنازعات الدولية «الأكسيد»، وأهمها قضية شركة عمر أفندى مع شركة «أنوال»، المملوكة للمستثمر السعودى جميل القنبيط، بالإضافة إلى قضية «مصر شبين» للغزل والنسيج، التى لا تزال متداولة أيضاً فى «أكسيد»، والتى يطالب فيها المستثمر الهندى، مالك مجموعة «أندروما الإندونيسية»، بمليار دولار تعويضاً بعد بطلان عقد البيع نهائياً فى عام ٢٠١٣، وهو ما ينطبق على قضية «المراجل البخارية»، التى أعلن خالد ومحمد شتا، مالكا شركة «الخلود»، اللجوء إلى هيئة فض المنازعات بلندن للتعويض ضد مصر بعد بطلان عقد البيع بين شركة كندية والحكومة عام ٢٠١٣ حيث قاما بشراء «المراجل» من الشركة الكندية، أما أحدث قضايا التحكيم الدولى، التى لا تزال فى طور التهديد، حيث هدد مجلس إدارة شركة النيل لحليج الأقطان الحكومة باللجوء إلى التحكيم الدولى بسبب بطلان عقد بيع الشركة على الرغم من استحالة تنفيذ الحكم فعلياً بسبب إدراج أسهم الشركة فى البورصة وتداول أسهمها بين أكثر من ١٠ آلاف مستثمر، إلى جانب قضيتى «سيمو للورق» و«أسمنت أسيوط»، وإجمالى تلك القضايا ستكلف الدولة، حال الحكم بالتعويض، أكثر من ٣٠ مليار دولار سنوياً، موضحاً أن فسخ العقود مع المستثمرين على الخلفيات السياسية، هو أكثر إضراراً بالاقتصاد المصرى وجلب استثمارات أجنبية جديدة، فإلغاء عقود أبرمت مع مستثمرين فى عهد مبارك على سبيل المثال ليس سبباً كافياً للإلغاء، كما أن عدم قبول الرأى العام لبرنامج الخصخصة لا يمكن أن يكون سنداً للقضاء المصرى فى اتخاذ مثل هذه الأحكام.
وأوضح «السيد» أن بداية مصر مع قضايا التحكيم الدولى بدأت بقضية «سياج» للاستثمارات السياحية حول أرض بمدينة طابا والتى تبين قيامه ببيعها إلى شركة إسرائيلية وتم اللجوء إلى هيئة فض المنازعات التابعة للبنك الدولى بواشنطن واستطاع أن يحصل على حكم بالتعويض بمبلغ ٣٠٠ مليون دولار وقبله بثلاث سنوات نائل الفرارجى استطاع الحصول على حكم بتعويض قدره 22 مليون دولار من مركز التحكيم الدولى بواشنطن فى قضية فندق النيل، بالإضافة إلى قضية مطار «رأس سدر» والنزاع بين وزارة الطيران المدنى وهيئة بريطانية والتى قامت بإحالة النزاع بمركز تحكيم دولى فى مدريد والذى حكم بتعويض قدره ٥٣٠ مليون دولار، ثم نزاع آخر بين وزارة السياحة وشركة بريطانية حول أرض الهرم الشهيرة بـ«جنوب الباسافيك» حول هضبة الهرم، حيث قامت «السياحة» بفسخ العقد ولجأت الشركة البريطانية إلى التحكيم وأصدر حكماً بالتعويض بمبلغ يصل إلى ٣٦ مليون دولار، بينما أخطر القضايا العالقة حتى الآن هى قضية «غاز شرق المتوسط»، التى قامت شركة كهرباء إسرائيلية برفعها ضد شركة غاز شرق المتوسط ورجل الأعمال الهارب حسين سالم وشركة أمريكية وأخرى تايلاندية، وتكمن الخطورة فى تلك القضية حال الحكم ضد مصر فى الحجز على الأموال والممتلكات الحكومية المصرية بالخارج، بالإضافة إلى قضايا أخرى مثل قضية بسبب صفقة إطارات السيارات لإحدى الماركات العالمية مع الحكومة المصرية، حيث تبين أن الشركة بعدما أغرقت السوق المصرية تبين أن الإطارات غير مطابقة للمواصفات، ونتيجة للفساد وقف الجانب المصرى مكتوف الأيدى وخسرت الحكومة القضية، إلى جانب عدة قضايا ضد مصر من شركات «كوروب إنترناشيونال»، و«إتش آند إتش»، و«فينوسا»، و«ميناء السخنة»، و«فيولا»، وشركة «الفطيم» الإماراتية، وشركة «أجريوم»، وشركة «أومو نيتسوا»، وشركة «داماك»، وشركة «أوتش» الألمانية.
وأوضح «السيد» لـ«الوطن» أنه على الرغم من عدم وجود قيمة دقيقة حول الخسائر التى تكبدتها مصر كتعويضات فى قضايا التحكيم الدولى فإن أقرب رقم دقيق يقدر التعويضات المفروضة على مصر بنحو 90 مليار دولار فى أكثر من ٣٧ قضية، مشيراً إلى أن مراكز التحكيم فى الخارج ومركز القاهرة الإقليمى للتحكيم تنظر حالياً نحو 37 قضية تحكيم.
موضحاً أن أزمة قضايا التحكيم الدولى فى مصر ترجع إلى غياب الدقة عند صياغة العقود، ومصر كأكبر دولة فى الشرق الأوسط تلتزم بأكثر من ٩٠ اتفاقية، تقتضى بقبول التحكيم الدولى فى حالة النزاعات الاستثمارية، ما يلزمنا باستصدار قانون يقر بتحديد جهة واحدة تكون هى الجهة التى تلجأ إليها جميع الهيئات والوزارات والجهات الحكومية ولتكن تلك الجهة هى هيئة قضايا الدولة تكون منوطة بصياغة العقود، إذ يجب على الجهة المصرية اللجوء للهيئة لصياغة بنود العقود، ولا يعتبر العقد صحيحاً وسارياً إلا بعد موافقة هيئة قضايا الدولة حتى لا تخرج العقود بصياغات ضعيفة، أو بها ثغرات قانونية ليتم إعداد العقود وصياغتها بشكل سليم من الناحية القانونية، حتى لا نفاجأ بقضية تحمل البلاد تعويضات مالية كبيرة كان يمكن التغلب عليها وتفاديها إذا تمت صياغة العقد بشكل صحيح.
وقال هشام عبدربه، محامى الموردين فى قضية «عمر أفندى»، إن اللجوء للتحكيم الدولى بشكل عام يتم إذا نصت بنود العقد على ذلك، وتتكون من محكمة التحكيم والمحكمين والسكرتارية، وتتشكل محكمة التحكيم من رئيس أو رئيسين مساعدين نواب رئيس ومستشارين فنيين وسكرتير عام يختارهم مجلس غرفة التجارة الدولية، وذلك بالإضافة إلى الأعضاء الذين تعينهم اللجان الأهلية وتتولى كل لجنة تعيين مندوب دائم ونائب له وتتولى المحكمة مراقبة وضمان تطبيق قواعد ونظم التحكيم فليس من اختصاصها إصدار حكم فى موضوع الخلاف وإنما تقوم بتنظيم ومراقبة عملية تسويته والحكم فيه بواسطة الإجراءات الإدارية، وتباشر المحكمة أعمالها خلال جلسات تعقدها مرة كل شهر، وللأطراف المتنازعة الحق فى الاختيار الكامل فيما يتعلق بجنسية من يختارون من المحكمين، أما بالنسبة للمحكم الوحيد فإن اختياره يتم عادة بواسطة المحكمة من جنسية دولة أخرى غير دول أطراف النزاع، وكذلك الحال بالنسبة للمحكم الثالث. وأكد «عبدربه» أن المستثمر يلجأ للتحكيم الدولى عادة تفادياً لمشاكل بطء إجراءات التقاضى، وعدم وجود دوائر قضائية اقتصادية كثيرة، لحسم النزاعات بسرعة دون تأجيل أو إبطاء، ولا بد من تبسيط الإجراءات الخاصة بهذه الدوائر، وتوفير الضمانات اللازمة لصدور الأحكام بعدالة ونزاهة، وسرعة تنفيذ الأحكام وعدم إعاقة الإشكالات والطعون.
وأشار تقرير صادر عن المركز الدولى لتسوية منازعات الاستثمار «أكسيد»، إلى أن هناك 22 قضية ضد مصر فى هذا المركز فقط، 11 مستمرة و11 قضية تم الفصل فيها، حكم فى اثنتين منها لصالح مصر و4 لصالح المستثمر الأجنبى، ولم يفصل فى باقى القضايا. وأوضح التقرير أن الفترة ما بين عام 2011 وحتى 2013 احتلت مصر المركز الثالث فى قائمة الدول المرفوع ضدها قضايا تحكيم دولى بـ10 قضايا فقط فى تلك الفترة بعد الأرجنتين وفنزويلا.
وطالب المركز الدولى فى تقريره الحكومة المصرية بأن تحاول الخروج من مأزق الاتفاقيات الثنائية والتحكيم الدولى بشكل أكثر حنكة، وأورد التقرير عدداً من الأمثلة الدولية الناجحة فى الخارج، حيث قامت الأرجنتين باستغلال ثغرات قانونية فى هذه الاتفاقيات للامتناع عن تنفيذ الأحكام، وألغت جنوب أفريقيا اتفاقيتها الثنائية مع بلجيكا بعد خسارتها لقضية مع شركة بلجيكية، وأستراليا لم تعد تناقش أحكاماً متعلقة بتسوية المنازعات الاستثمارية بين المستثمر الأجنبى والدولة فى اتفاقياتها التجارية مع دول أخرى.