تحايل.. قصة قصيرة لـ"عبير درويش"
فقد البوصلة وافتقد الثبات، وفي حرية خلع عن جسده قوانين الجاذبية، وتعمم بالريش طمعًا في التحليق إلى ندوف السماء، وتلحف بأسمال الأرض إلى أن أصبح الطين ملتصقًا بجلده المتغضن امتدادًا من وجهه المغطى بلحية كثة تخفى معالمه .
ولن ترى منه سوى أنف يزفر فتهتز شعيراته خارجة، وشهيق ممتنع عن الوصف والفعل، يعلو وجهه عينان لا تريمان حتى في محاولة بائسة لإزاحة أسراب الذباب الهائمة حوله .
هو لا يبارح طوفه الحجري.. الذي يتقاسمه مع شريكه الأرعن الذي يهرع صوب الروائح أيًا كان مصدرها ولا يستطيع استيقافه أحد.. عدا ذلك يتمدد في استكانة ويفرد قدميه الأماميتين والخلفيتين في حركة عصبية لا تتوقف إلا إذا تمسحه وأربت عليه، فيتأوه ويمد بوزه ناحية كفه، لذا أطلق عليهما "جمعة وكلبه المتلبسان"، أي اللذان تلبسهما جن سويًا.
بعض الناس ممن يخشون إطلاق مسميات.. خشية الجزاء ينادونه بـ"البركة" كي يلبي لهم حاجة شقت عليهم وهم يعلمون مسبقًا الرد ليتضاحكوا على المخبول الذي يرفض، وفي بعض الأحيان تصل بهم العاقبة إلى قذفهم بالحجارة، فضلًا عن سيل الشتائم المنهمر من جمعة بالأب والأم وسالف الجدود.. ويلقي فوق مسامعهم ترنيمة "لا".. لا يعرف.. لا يريد، لا يرغب، وينزح بعيدًا عنهم وهو يردد لا بد.. لا بد في حركات متذبذبة ويشيح بيده كمن يبعدهم عن مسامعه.!
يحدث نفسه ويوبخها ويجزل لها العطاء، ويراقصها بلا.. و لا بد !!
لااااااااااااااااااابد.. أن يعتمل في الرأس صوت أزيز باب الزنزانة ليلوح لفراشات الوهم بأن تنأى كي يتسنى له الرقص على زخات المطر .!!
بعضهم لا يرى.. لكنه يرى أن لا أحد يرى !!
فالعتمة سواء، والعقل غباء، والغيب ذكاء !!
مجذوب ؟؟
بعض الناس يراه هكذا.. وبعضهم.. لا
لا لا.. ظل يرددها..
بعض الناس يظنونه متحايلًا.. وبعضهم لا والآخرون يجزمون أنه هارب ويتخفى، وبعضهم يقسم أنه ذات ليلة قد سمعه يرطن بأشق اللغات فهمًا.. والآخرون يشفقون عليه ببعض الأردية.. فيزجرهم بلا، وبعضهم يتفضل بما استعاف أن يؤكل وما حبب إليهم من ملذات وجميعها عند جمعة.. لا.. وجمعة هو اسمه لأنهم وجدوه بجوار الميضة إبان صلاة الجمعة، وأبى أن يدخل لزمرة المحتمين بجدار الجامع والمتمسحين بعتباته .
يركن جمعة في كوّة يتابع الغادي والرائح.. ويتمتم بالدعوات لهم.. دعوته الخاصة في شفرة تلويح بالرأس يمنة و يسرة..
لا لا.. لا لا.. لا لا
البنت تسير بجوار أخيها الملتحي وتعب في جلبابها تكاد تلتف به.. تومئ "بمشيئة الله .. بمشيئة الله"
الزوج يقف تحت سقيفة شرفته والزوجة تلقى على مسامعه قائمة الطلبات.. والزوج يطأطئ.. مغمضًا ويمنى نفسه بالانتهاء "حاااااااضر يا ستي.. حاضر".
امرأة أربعينية تخطو بجوار ابنها المقبل على الشباب وتشير له بيدها أن يتمهل.. وتمنيه "حاضر.. هاجيبهولك أول ما اقبض المعاش.. واصبر شوية وهاجيبلك الآي فون".
وشاب يهاتف رئيسه في العمل ولا يرى خطواته أمامه: "أأمر يا فندم.. حاضر.. أيوة تمام.. حاضر ".
الطفل يسرع ويلبى نداء الأم.. ويلقى بالكرة بعيدًا "حاضر يا ماما ".
النادل في المقهى يرد على الزبائن "أيوة جاااي أيوة جاااي".
الشاب يمشى بجوار فتاته هائمًا ويتيه فيها وعينه لا تستقر سوى على مقلتيها وهو يهز رأسه بالإيجاب القاطع "أيوة يا حياتي.. بحبك جدًا جدًا".
البائع الجوال تناديه السيدة الممتلئة من النافذة "حااااااضر".
مازال جمعة يعتلى رصيفه الواطي.. ومازال يردد.. لا لا.. لا لا.