بروفايل| «ابن الشهيد».. حضر الوسام وغاب الأب
قلب صغير يرتجف أمام صدى التصفيق القوى الذى يلف أرجاء المكان، يعتلى ابن الشهيد المنبر العالى، كما طلب رئيس الجمهورية، فى احتفالية عيد الشرطة. يقف بجوار الرئيس وهو يلقى خطابه الذى يثنى فيه على دور والده البطل، يتسلم وسام التكريم فى لحظة لا تُنسى، سيتذكرها طوال حياته وربما لا يعى معناها إلا بعد عدة سنوات. سنوات كافية لإدراك معنى غياب الأب، وفقدانه لمرجعيته فى الحياة، يخرج وسام الدولة ويعزى نفسه أنه ابن البطل، ابن الشهيد، وأن المصادفة لعبت دائماً الدور الرئيسى فى حياته.
كما تختبرنا الحياة، نحن أيضاً نختبر أنفسنا، شب الطفل، وهو يتأمل والده، الذى يخطو بخطوات واثقة أمامه، مرتدياً بدلة الشرطة، النجوم تلمع على كتفيه، هى أقرب لذلك الطفل وأكثر رونقاً من نجوم السماء. ينظر إلى سلاح والده بانبهار، يحلم أن يصير فى يوم ما مثله ضابط شرطة، يشاركه أقرانه فى المدرسة نفس الحلم الطفولى أن يرتدوا بدلة الضابط.
مصادفة صار ابن ضابط شرطة، ومصادفة اختار الموت أباه دون غيره، ليستشهد أثناء تأدية مهام عمله، أبوه تحول لخبر تتناوله الصحف وقنوات التليفزيون: «مقتل ضابط إثر انفجار عبوة ناسفة»، «مقتل ضابط بطلقات نارية أثناء هجوم إرهابى».
لحظة فقدان الأب، هى اللحظة الأصعب، لا يستوعبها عقل الصغير، يفزعه صوت البكاء والصراخ، والوجوه المتورمة من كثرة البكاء، والمتشحات من حوله بالسواد. يرى انعكاس الألم فى عين الأم، ارتجافها ومخاوفها من مواجهة الحياة بمفردها ينعكس عليه. يسمع كلمات لا يعيها.. «الإرهاب»، «المشرحة»، «عبوة ناسفة»، «طلقات نارية». ولأول مرة يعرف شكل المقابر.
يشعر بالحنين إلى الأب، كأنه ذهب إلى رحلة طويلة لعالم آخر لن يعود منها. نحن نحتاج لوقت كافٍ لإدراك المصائب الكبيرة، سنوات محملة بالمواقف والمناسبات الحزينة والمبهجة، يدرك فيها الابن معنى الفقدان، مرارة الغياب، يستشعره فى انعقاد مجلس الآباء فى المدرسة، والترقب عند استلام شهادة الثانوية العامة، والحيرة فى اختيار الكلية، والفخر فى حفل التخرج، وفرحة يوم الزفاف.. لحظات قوية سيعرف فيها ابن الشهيد معنى اليتم الحقيقى.
يجلس الصغير ضيفاً فى أحد البرامج الحوارية، يهاب أضواء الكاميرا المسلطة عليه، يصر المحاور على سؤاله: «إحساسك إيه؟»، يشعر الصغير بصعوبة بالغة فى التنفس، يحاول أن يتمالك دموعه؛ لأنه سمع أن الرجال لا يبكون، وتنجرف الدموع غصباً عنه كشلال متدفق، يقول بأنفاس متقطعة: «بعيط لما بشوف صورة بابا». مشهد انكساره وألمه سيبقى راسخاً فى الذهن لفترة طويلة.
يوماً ما فى محاولة مواساة نفسه سيتذكر الوسام الذى احتفظ به سنوات طويلة، سنوات كان فيها الوسام حاضراً والأب غائباً.. «جرح طفيف فى ذراع الحاضر العبثى، والتاريخ يسخر من ضحاياه، ومن أبطاله يلقى عليهم نظرة.. ويمر».