ساعات المواجهة فى «ليلة الحرب»
نوافذ مهشمة، شظايا يتلاعب بها الأطفال فى الشوارع، وزجاج متكسر يفرش أرضية المكان بالكامل، سواتر رملية ومتاريس أسمنتية تغلق جميع شوارع الحى، بكاء ونحيب، وأثاث منزلى فى الشوارع يستعد أصحابه للرحيل عن المكان الذى كانوا يعتبرونه «الآمن» فى شمال سيناء، جيران محيط الانفجارات، أول المتضررين من الأحداث، وأول أعين شاهدت وقائع القصف المسلح، وأول ما سدت آذانهم من صياحات المصابين والشهداء، باتوا ليلتهم تحت الأسرّة، ملتصقين بجدران منازلهم، لم تتوقف نساؤهم عن النحيب، ولم تهدأ صرخات الأطفال طوال الليل.
دخلت «الوطن» منازلهم المتضررة جراء الليلة التى وصفوها بـ«ليلة حرب»، لتعرف تفاصيل ساعات من الرعب والدم، فى منطقة «الضاحية» التى تجتمع فيها مديرية الأمن والسجن وقسم أول العريش والمرور ومبنى أمن الدولة، وكتيبة الجيش «101» فهى الأكثر حيوية ، وتجمع معظم مؤسسات الدولة فى مدينة العريش، والتى استهدفتها العمليات الإرهابية أمس الأول.[SecondImage]
بالقرب من مديرية أمن شمال سيناء، وخلف ساتر ترابى طويل، يفصل محيط الانفجارات عن بنايات الأهالى، يجلس «الشيخ طارق» داخل دكانه الصغير، الرجل بشعره الشايب ولحيته، إمام أحد المساجد، جاء إلى العريش منذ عام 1991، وفتح دكاناً صغيراً متاخماً لسكنه المواجه لمديرية أمن شمال سيناء: «كنا فاكرين إننا ساكنين فى أأمن مكان فى العريش.. لكن لا بقى فيه أمن ولا أمان»، فالرجل الذى بات ليلته منكباً على وجهه، يحاول أن يهدأ من صيحات زوجته المرعوبة من هول المنظر.
حين بدأت الانفجارات كان الرجل فى دكانه، وبمجرد أن شاهد ارتفاع ألسنة اللهب دخل مهرولاً إلى منزله، الذى تهشم بابه من جراء الانفجار، ويقول بامتعاض: «ده كان أكبر انفجار حصل فى العريش»، مشيراً إلى أن توقيت بدء الانفجارات كان فى تمام الساعة السابعة والثلث، واستمر راقداً على الأرض، برفقة زوجته، حتى الساعة العاشرة، لم تمر الساعة حتى عادت الاشتباكات وطلقات النيران هنا وهناك: «البيت حيطانه كلها اتشرخت، والرصاص كان بيخش علينا من الشبابيك»، توهم الرجل ولو للحظات أثناء نومه خائفاً على الأرض: «القيامة قامت ولا إيه»، ولكن عاد ليرتل ذكر الله، ويستغفره ويدعوه ليخرج من منزله، بعد أن بدأت الانفجارات المتعددة تُسقط عليه أجزاء من جدرانه وسقفه: «انفجار ورا التانى والبيت بقى بيُقع».[FirstQuote]
لم يبرح الشيخ طارق وأولاده موضعهم طيلة الليلة، قضوها على الأرض، لم يستطيعوا رفع رؤوسهم ولو برهة منذ بدأت الانفجارات وما وصفها بالاشتباكات وإطلاق النيران الكثيف والمتتالى: «قاعد على البلاط من الرعب»، ويؤكد أن الإسعاف وصلت لموقع الانفجار بعد ساعتين كاملتين، فوقتها لم يستطع أحد أن يصل للمكان فى الوقت المناسب.
يشير بيده المرتعشة إلى سور مديرية الأمن المهشم والمحطم ويقول بكل حزن: «شايف السور ده متكلف ملايين كان سورين ورا بعض ومحدش قدر يقف قدام الانفجار بقى أرض أرض»، الرجل الذى يسكن فى الطابق الأرضى يجد أن موضع شقته رغم قربها الشديد من المديرية ولكن وجودها فى الطابق الأرضى حماها: «حسبى الله ونعم الوكيل وده قضاء ربنا وقدره» ويرفض أن يترك العريش ويعود لبلدته فى الشرقية التى جاء منها: «لو أنا سبت البلد، وأنا داعية، الناس التانية تعمل إيه، هنسيبها لليهود يسكنوا فيها»، ويستطرد بكل فخر: «دى أرض مصرية ومش هنسيبها ولو على جثثنا».
على مبعدة من جلسة الشيخ طارق، وعلى بعد منزلين، يجلس «محمد على» داخل محله لتنظيف الملابس، الذى سقطت عليه شظية ضخمة هشمت واجهة المحل، ولولا العناية الإلهية لأردته قتيلاً، ويتذكر ليلة أمس الأول حين كان يجلس داخل المحل ليشاهد المباراة وبرفقته اثنان من أمناء الشرطة العاملين فى مديرية الأمن، اعتادوا مشاهدة التليفزيون فى محله، مع بداية الشوط الثانى، وقع انفجار اقتلع الرجل العجوز من وضعه وارتطم جسده الضخم فى أحد جدران المحل، وحاول التحامل على جسده المصاب، وأخذ فى الزحف على الأرض حتى وصل إلى أحد الجدران الخلفية للمحل ليختبئ خلفها ومعه أمناء الشرطة.[SecondQuote]
مع انتهاء أهالى المنطقة من صلاة الغائب على أرواح الشهداء، عقب صلاة الجمعة، وقف «محمد عبدالنبى» مدير عام رعاية الطلاب بالجامعة، بصحبة صديقه أمام المسجد يتحدث بكل حمية عن الانفجارات التى شهدتها منطقته والتى أودت بشهداء الشرطة والجيش، يقول بكل حماس لـ«الوطن»: «هما استغلوا نتيجة التراخى ساعة الماتش وعملوا عملتهم»، ويشير بيده إلى المبانى التى تجاور مديرية الأمن وواجهتها المهشمة: «دى غلطة الشرطة، إزاى الضربات كلها تحصل فى توقيت واحد ومن تلات جهات مختلفة».
يترجل الرجل إلى إحدى البنايات المجاورة لموقع الحادث، يدخل يلقى السلام على جيرانه، ويدخل للطابق الأرضى، أبوابه مهشمة، ونوافذه أيضاً، أجهزة كهربائية ملقاة على الأرض، الملابس ملقاة فى كل مكان، وسيدة طاعنة فى السن تجلس على مقعد ما زال به الرمق فلم يتدمر كاملاً هو الآخر.
يجد «عبدالنبى» أن انشغال قوات الأمن بالمباراة بين الأهلى والزمالك السبب الرئيسى فيما آلت إليه الأوضاع، وأن منفذى العمليات الإرهابية استغلوا تلك اللحظة لضرب ضربتهم: «إحنا عِشنا ليلة تحت الترابيزات وتحت السراير»، مضيفاً أنه لا يوجد بيت فى حى الضاحية يخلو من مصاب، ويعتبر الضاحية أهم المناطق فى العريش: «منطقة حيوية لأكثر مما تتخيل».[ThirdImage]
مع بزوغ شمس اليوم التالى للحادث، سمع «يحيى» صراخ السيدات يعود من جديد، بعدما انقطع ليلاً بعد هدوء الأحداث، فالسيدات اللاتى خرجن للشرفات حين رأين بقايا أشلاء جثامين العساكر فى الشقق المواجهة للموقع لم يتمالكن أنفسهن وعدن للصراخ والنحيب من جديد.
ما زال «يحيى» يتذكر حال العريش قبل الثورة: «البلد كانت ماشية زى الفل»، فالرجل الذى يعيش فى المدينة منذ عشر سنوات جاء إليها لهدوئها والرغبة فى بداية جديدة فى مدينة جميلة، ولكن يرى أن المدينة الهادئة الجميلة تحولت لمنطقة حرب بعد الثورة، ويشير إلى أن الجيش يحاول القضاء على الإرهاب من أربع سنوات: «طلعوا لنا من تحت الأرض مش عارف منين، دلوقتى لو ركنت على عربية واحد خربشتها يقول لك هاتلى واحدة غيرها، وإلا يقتلك»، ويعود ليقول بانفعال مفرط: «لازم الجيش يبيدهم ويحمينا ونرجع نعيش فى أمان»، ويعود لهدوئه ويقول: «لو هفلتر رملة الصحرا كلها هخلصها فى أقل من 3 سنين».
حفرة صغيرة، وشظايا، وبقايا جدران متهالكة، ومصدعة، هنا سقطت قذيفة هاون، أمام بناية مواجهة لمقر الكتيبة «101» موقع التفجير الثانى ومجاورة لكمين الضاحية، وعلى مقربة منها يقف الدكتور محمد العرنوسى، والتى أصابت قذيفة الهاون التى ضلت طريقها جدران عيادته، فسقطت بعدما أصابت الجدار أمام منزله، لم تنفجر، حتى جاءت قوات الجيش ونزعتها من الأرض وأبطلت مفعولها، ويقول بكل هدوء: «الوضع مايتوصفش، اللى شُفناه يفوق الخيال بمراحل» مشيراً إلى موضع قذيقة الهاون: «الحمد لله أن الصاروخ منفجرش وإلا كنت شُفت الناس كلها هنا ميتة»، وحين أصابت القذيفة المنزل جلس الرجل ينطق الشهادة وجيرانه، ولا يستطيعون أن يرفعوا رؤوسهم: «محدش كان قادر ينزل ولا قادر يعرف إيه اللى بيحصل بره».
فى البناية القريبة من العمارة، يحاول «محمود عثمان» الشاب البدوى إعادة ثلاجة لداخل الشقة المدمرة، فحين حدث الانفجار خرجت إلى خارج شقته، من دفعة الانفجار: «كله نزل تحت سريره، محدش يقول إنه عمل نفسه راجل، البيت كله طار»، فالشقة مدمرة نهائياً، يحاول تجميع بقايا باب منزله، يحاول جمع الزجاج الذى يفرش أرضية المنزل بالكامل يغطيها فلا يظهر منها شىء، وأبعدوا النساء عن المنزل نهائياً، وفى وسط الشقة يجلس «محمد سعيد» عم الشاب، يحاول إعادة الملابس المتناثرة هنا وهناك، ويقول الرجل الذى ابيض شعره: «فى أكتر من التلاجة تاخد الباب وتطلع بره»، يحاول جمع الشظايا المتناثرة فى الشقة، فشقتهم لا يفصلها عن الكتيبة سوى سور واحد: «الجيش لازم يبص لأهل البدو المتضررين، يعنى زى ما فيه بدو بيفجر ويضرب فيه بدو مسالمين متضررين من اللى بيحصل»، ويقول بكل عصبية: «أكل عيشنا واقف من الحظر وبيوتنا بتنضرب زى الكتيبة، وفى الآخر بيجمعونا مع بعض فى اتهام واحد»، بخلاف إصابة بعضهم من جراء الانفجار ولم يجد عربة إسعاف تنقله بسبب الحظر، ويطالب بضرورة اتخاذ موقف جاد لعودة الأمن لسيناء: «إحنا انتخبنا السيسى عشان يضرب الإرهاب ويرجع لنا الأمن».