مأساة نجيب سرور.. الصدام مع "السلطة" أقرب طريق إلى "مستشفى المجانين"
"يا حارس السجن ليه خايف من المسجون، هي الحيطان اللي بينا قش يا ملعون، ولا السلاسل ورق ولا السجين شمشون''، بهذه الكلمات لخص الشاعر الراحل نجيب سرور فلسفته ضد الظلم، فأعطاه الظلم قوة استثنائية، يخرج لسانه إلى السلطة، فيُلقى به في مستشفى الأمراض العقلية.
الموهبة لدى ''سرور'' كانت كالجريمة، لا يمكن إخفاؤها، تجلت منذ الصغر، اشتعلت في رأسه وظهرت في كلمات الشاعر ابن العام 1932، وتحدى بها الجميع، حيث كان الفن هو صديقه الوحيد، فعندما تصطدم مشاعر الفنان وأحاسيسه الراقية بواقع صعب ومؤلم تتحول فيه أحلامه إلى رماد، ويرى حياته تهوي أمامه تكون النتيجة "مأساة" نجيب سرور، التي أخذت قوى الظلام تتسلل إليه ببطء في مواجهة تلو الأخرى حتى قضت على حيويته وحماسته وتركته شابًا يصارع الموت بمستشفى الأمراض العقلية، لكنها لم تقض على ثوريته التي أودعها فنه الخالد، فهو الذي حفر في طبقات الزيف والكذب ليصل إلى الحقيقة، التي احترق بنورها الساطع.
على الحافة بين الجنون والعقل، يقف بقلمه شاعرًا وكاتبًا ومسرحيًا، بين المبدع العبقري، والمجنون النرجسي، والضحية التي قتلها الاستبداد السياسي وقت الرئيس جمال عبد الناصر.
الفقر والاضطهاد كانا محرك ظهور أول قصيدة لنجيب سرور بعد أن تعرض للضرب هو وعائلته على يد عمدة قريته فكتب قصيدته عام 1956 والتي حملت اسم قصيدة "الحذاء" وأطلق على العمدة اسم "نجيب الرب".
تأثر الشاعر والمسرحي والمناضل نجيب سرور، في بداية تجربته الشعرية، بسقوط ضحايا وعمال وقفوا أمام الاحتلال البريطاني لمصر، لكن سخطه على الوضع استمر عقب ثورة 1952، ناقمًا على عهد ''عبد الناصر''، لم يرض عن أي نظام سياسي، ولم يقبله كذلك أى نظام، ليلاحقه بالإلقاء في مستشفى المجانين، دون أن يعلموا أنه صاحب لقب ''شاعر العقل".
"تم استلامه من الشرطة العسكرية في الساعة الخامسة والنصف من مساء الأحد، الثاني من يونيه عام ألف وتسعمائة وتسعة وستين".
بتلك الكلمات انتهى بيان الحالة أو التقرير الطبي، الذي بموجبه أودع الشاعر والمؤلف والممثل والمخرج المسرحي نجيب سرور مستشفى الأمراض النفسية بالعباسية.
''أميات'' هى أبرز ما اشتهر به ''سرور'' شعرًا بين العوام، بعد أن نقم من الفساد المستشري في مصر، والتي كانت قشة البعير في دخوله مستشفى الأمراض العقلية، وكان قد صب اللعنات أيضًا على بعض من شعراء وفناني جيله، أخذوا من أضواء الشهرة مساحة برضاء الحاكم كما رأى، فلم يكن راضٍ عن صلاح جاهين، أو زوجته التي طلقها ''سميرة محسن''، أو حتى عن ألحان عبد الوهاب، ليرى أنها مزيج من ألحان غربية وشرقية.
حفرت هزيمة يونيو جرحا في شخصية ''سرور''، لم تبرح حتى نالت من أعماله شعرًا وأدبًا، ليصدق الشاعر أن هناك مؤامرة عليه بداية من المخابرات المصرية حتى منافسيه من الشعراء والأدباء.
وفي عام 1971 بدأت مرحلة جديدة في حياة سرور بالمواجهات مع الأنظمة الأمنية، التي تفاقمت بعد عرض مسرحية "الذباب الأزرق" التي تناقش عملية التصفية التي تعرضت له المقاومة الفلسطينية على الجيش الأردني، والمعروفة بأحداث "أيلول الأسود"، والتي قد تدخلت الاستخبارات الأردنية لدى السلطات المصرية لإيقافها، وانتهت المواجهات بطرد سرور من عمله وعزله عن الحياة الثقافية في مصر، كما تعرضت أعماله للاغتيال الأدبي، وتم تهميش اسمه ومساهماته في المجالات الثقافية، فاتجه إلى كتابة قصائد انتقد سياسة حكومة أنور السادات تجاه الوطن والشعب وخصوصًا قمع الحريات العامة وحرية التعبير والتسلط على المثقفين والتنكيل بالمواطنين، فلفقت له الحكومة التهم المختلفة وساقته إلى مستشفى الأمراض العقلية.
ارتباكات كثيرة تحملها نجيب سرور وحده، جعلته نزيلاً في مستشفي العباسية للأمراض العقلية، حتى مكث فيها إلى أن وافته منيته عام 1978 بعد أن أصابه الخذلان واليأس، قائلًا "أنا عارف أني هموت في عمر الورد.. وساعتها هيقولو لا قبله ولا بعده، وبطانة بتقول ياعيني مات في عمر الورد.. وعصابة بتقول خلصنا منه مين بعده"، وهناك بعد أقوال غير مؤكدة حول مقتله بداخل المستشفى، للتخلص من إزعاجه للسلطات.