المؤمن فى "زمن التطرف"
يستدعى الرئيس عبدالفتاح السيسى، الدين فى حواراته ولقاءاته، ولا يكاد يخلو حديث أو تعليق له من استحضار وتكرار للآيات القرآنية والأحاديث النبوية من أجل دعم رؤيته التى يتبناها، أو إبراز وجهة نظره فى قضايا بعينها، وما يسترعى الانتباه ليس فقط استدعاء الرئيس الدين قولاً واستشهاداً، وإنما ما يبدو وكأنه «مشروع» دينى ذو نزعة أيديولوجية تعكس رؤية معينة للحياة.
واحتل الدين مكانة رئيسية فى الرسائل التى يحاول الرئيس دوماً إيصالها إلى الجمهور، ويمكن تلخيص الرؤية الدينية للرئيس باختصار، فى قوله: «نحتاج إلى المراجعة والتوقف للاتجاه نحو الخطاب الدينى الحقيقى حيث إن الإشكالية ليست فى العقيدة ولكن فى الفكر، ليس من المعقول أن نظل نقدس أفكاراً ونصوصاً لآلاف السنين وهى بعيدة عن صحيح الدين، نحتاج إلى ثورة دينية على ما نحن فيه تقوم على الالتزام بكتاب الله وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم»، وتأويل مضمون ما يطرحه الرئيس يتطلب التمييز بين ما هو تاريخى من الفكر الإسلامى، أى المحكوم بقوانين التطور الاجتماعى والمعرفى، وبين ما هو ثابت ومطلق فى الإسلام.
ظهر الوجه الدينى للرئيس عبدالفتاح السيسى، خلال عام من حكمه، وسطياً يدعو للتطور وتطوير الخطاب الدينى، على مستوى الخطاب والممارسة، وحملت بعض جمله، فى بعض الأحيان، تفسيراً غير صحيح، كقوله: «لا بد من إحداث ثورة دينية على النصوص الدينية المقدسة التى تحارب البشرية كلها»، بيد أن المقصود من هذه الجملة، التى ثار حولها اللغط، أن هناك نصوصاً نُسبت إلى الدين وقدسها الناس وهى غير ذلك، أو أنهم فهموها على نحو مختلف عن معناها الحقيقى، أو أنها كانت مرتبطة بزمن معين ومجتمع معين ثم تغيرت الظروف وأصبح لا مجال لتقديسها.
وتفكيك الخطاب الدينى للرئيس، وفهم محتواه ودلالاته يتطلب إلقاء نظرة سريعة على نشأته ومعرفة تأثيرها فى تكوينه المعرفى والفكرى، فالرئيس نشأ فى منطقة الجمالية، القريبة من حى الحسين الذى يعد من أبرز المعالم الدينية فى القاهرة، الذى تحيط به مجموعة كبيرة من المساجد والزوايا التى يمارس فيها الكثير من الشعائر والطقوس الدينية، ومن الواضح أن نشأة «السيسى» داخل هذه الحاضنة الاجتماعية قد صاغت أفكاره ورؤيته الدينية فى شكل أو فى آخر.
وبدأ أول ملامح الخطاب والسلوك الدينى للرئيس أثناء سفره إلى الولايات المتحدة عام ٢٠٠٤ للحصول على زمالة كلية الحرب العليا الأمريكية فى بنسلفانيا، وبدت ميوله الدينية بوضوح ليس فقط من خلال «تدينه الوسطى»، الذى تشير إليه إحدى أساتذته فى الجامعة، وإنما أيضاً من خلال مضمون أطروحته البحثية التى حملت عنوان «الديمقراطية فى الشرق الأوسط»، والتى يشدد فيها على أهمية الثقافة والدين فى الحياة العامة وتأثيرهما فى مسألة الديمقراطية فى العالم العربى.
وتدين الرئيس يتجاوز النزعة التدينية المحافظة التى تتسم بها شريحة كبيرة من المصريين المعروفين بنزوعهم التقليدى نحو الدين إلى نوع من التدين «التنظيمى»، ما يؤكد أن المعرفة الدينية للرئيس ليست مجرد معرفة عادية، أو اختزالية كما هى الحال مع غالبية المصريين، التى جاءت نتيجة للموجة السلفية، والتدين الشعبى الذى شهده المجتمع خلال العقد الماضى، وإنما هى معرفة تنظيمية تعكس مقداراً واضحاً من التنشئة الدينية.
وخطاب الرئيس، الخاص بتطوير الخطاب الدينى، يكشف أن لديه رؤية دينية متماسكة تتجاوز الشعارات العامة ومغازلة الجمهور المتدين المحافظ فى مصر للحصول على تأييده، للعمل على فرض تصور ونمط معين للحياة، ما أكده الرئيس مراراً فى تصريحات له قال فيها «إنه من الضرورى أن يكون للدولة وقائدها دور فى حماية الدين والقيم والمبادئ فى المجتمع».
وكثيراً ما حذر الرئيس، من فهم دعوته للتطور الدينى بشكل خاطئ، وانتقد دور الإعلام فى التعامل مع دعوته لتطوير الخطاب، وقال الرئيس أكثر من مرة، إن تجديد الخطاب الدينى عبر وسائل الإعلام ليس فى مصلحة الدين ولا الوطن، ما يؤكد أن نظرة الرئيس لتطوير الخطاب الدينى، يجب أن تخضع لضوابط ورقابة معينة، من قبل المؤسسات الدينية فى الدولة.
كما أن الخطاب الدينى للرئيس فيه مقدار عال جداً من التسييس، ما يتضح على مستويين، الأول هو مستوى التوظيف السياسى للدين من خلال التشديد على دوره فى الحياة العامة وصياغة سلوك الناس وأفعالهم، والثانى كأداة فى الصراع مع الجماعات والتنظيمات المتطرفة، واتضح ذلك جلياً، حينما قال الرئيس إنه قرر التدخل فى 3 يوليو «من أجل إنقاذ الإسلام ومصر من الإخوان».[FirstQuote]
والخطاب الدينى للرئيس هو خطاب دولة، فنشر الوعى الدينى هو مسئولية الدولة وأجهزتها، وهنا يشير إلى أن الدولة مسئولة عن نشر «الوعى الدينى الصحيح» بين المواطنين من أجل مواجهة الفكر المتطرف وفق قوله، وهو يكرر دائماً مقولة ضرورة تجديد الخطاب الدينى، واستخدامه كأداة لنزع الشرعية عن الجماعات الإسلامية، خاصة «الإخوان»، لذلك يسعى الرئيس من خلال مؤسسات الدولة لتطوير الخطاب الدينى، ويدرك أن «الخطاب الدينى» فى مصر، مشوه وفاقد للبوصلة، ويحتاج لتوجيه من أعلى، تعكسه رؤية قيادية، لمواجهة الجماعات المتطرفة، ومنع استغلال الدين لاستقطاب الشباب وضمهم لهذه التنظيمات ودفعهم نحو تنفيذ عمليات إرهابية، ليس هذا فحسب، بل لمنع تسييس الدين واستغلاله مستقبلاً، كما كان يحدث فى الماضى، فى حصد مواقع سياسية فى الدولة.
ولا يترك «الرئيس» الكثير من المناسبات التى يلقى فيها كلمات، حتى يؤكد على ضرورة تطوير الخطاب الدينى، وتنقيته من كل ما هو متطرف، حتى يمكن بناء بيئة دينية، قائمة على التسامح والبعد عن التكفير والاستغلال السياسى للدين، وقال مراراً: «نحتاج إلى ثورة دينية لصالح الإسلام فآيات القرآن والأحاديث تدعونا إلى التفكير بعيداً عن القوالب الجامدة، وإن جوهر الإسلام أن يعبد الناس الله بإرادتهم ولا يجبروا على العبادة».
واستهل الرئيس عبدالفتاح السيسى، عام 2015، بدعوة أئمة العالم الإسلامى لتبنى مفهوم عصرى، حول الخطاب الدينى السائد، محملاً شيخ الأزهر، الدكتور أحمد الطيب، ووزير الأوقاف محمد مختار جمعة، مسئوليتهما التاريخية، مطلقاً تصريحه الشهير «سأحاججكم أمام الله بالخطاب الدينى»، وذلك فى إطار الاحتفال بذكرى مولد الرسول، وأتت دعوة السيسى بغرض تصحيح صورة الإسلام، مؤكداً أن «سمعة المسلمين تأثرت بما يحدث، ولا يمكن لمليار وربع مليار مسلم التغلب على 6 مليارات»، داعياً إلى مراجعة شاملة لمفاهيم التعايش مع الآخر.
وطالب الرئيس الأزهر والأوقاف ومعهما المفكرون والمثقفون، بضرورة تطوير الخطاب الدينى، وشهد نهاية «مايو» الماضى جهوداً مكثفة من المؤسستين، لوضع آليات لتجديد الخطاب وتنقيته مما قد يفهم بشكل يثير الجدل ويدعو للتطرف، ووضعت المؤسسات الدينية فى مصر خططاً عاجلة لتنفيذ ما طلبه الرئيس عبدالفتاح السيسى بإحداث «ثورة دينية تصحح المفاهيم الخطأ التى ترسخت فى أذهان الأمة الإسلامية، وأصبح الخروج عنها صعباً للغاية».
ومع دعوات تصويب الخطاب الدينى، التى يطرحها الرئيس، حاول بعض الأشخاص استغلال هذه الدعوات، للدعوة لما هو خارج نطاق ما طرحه وطلبه الرئيس، كدعوة شريف الشوباشى، الكاتب الصحفى، لمليونية لخلع الحجاب فى ميدان التحرير، بيد أنها لم تتم، للهجوم المجتمعى عليها.