سألت شيخي ذات مرة وقلت له «يا سيدنا.. في الجنة هل سنسمع تلاوة الذكر الحكيم؟»، صمت قليلًا ثم رد قائلًا: «يا ولدي لو كتب الله لنا دخول الجنة، سنسمع مولانا الشيخ عبد الباسط عبد الصمد يرتل آيات القرآن الكريم، من قرأ في جوف الكعبة سيقرأ لنا في الجنة»، سرت العبارة مسرى الحكم لدي، فمهما كان انتماؤك الديني تجدك تقف علي أعتاب مولانا الشيخ عبد الباسط مسحورًا ومفتونًا بهذا الصوت الملائكي، كل آية تتلى بصوت مولانا تملأ قلبك بالخشوع، صوته السماوي يجتاز عتبات أذنك فيشعرك بالقرب للسماء من الأرض، يهتز الوجدان بحمد الله وتسبيحه رهبة وإجلالاً، ويؤجج الأشواق لرحمة العزيز الغفار، حنجرته الذهبية تجعلك تدرك جلال المعاني القرآنية، والرسالة الإلهية، صوته الشجي يأسر قلبك ويصل بك لمرحل النشوة.. رفقًا بالقلوب يا قارئ القلوب.
العارفون بأحكام دولة التلاوة، يتفقون على تفرد مولانا الشيخ عبد الباسط عبد الصمد، ويدركون قيمته ودوره الكبير في مدرسة التلاوة المصرية، حيث قضت مشيئة الله أن تعتلي مصر عرش دولة التلاوة في العالم، علي مدار عقود مضت، فتحمل قراؤها مسئولية تلاوة القرآن فى مشارق الأرض ومغاربها، فأبهروا العالم بعزوبة أصواتهم، من ألمع سلاطين تلك المدرسة الشيخ عبدالباسط عبدالصمد، والذي ظهر تأثيراته على قُرّاء الدنيا، فصار أسلوبه علامة فارقة، وقلدوه فى التلاوة والأداء والترتيل.
على أجنحة صوت مولانا الشيخ عبد الباسط وتلاوته الفريدة، أسلم كثير من البشر، تلاوته هزت وجدانهم، فكان خير سفير لكتاب الله، صوته السماوي ملأ أركان العالم جمالاً ويقيناً بعظمة وقدرة الله، مئات الآلاف من البشر كانت تحضر قراءاته حول العالم، كان أثره في التعريف بالدين الحنيف أضعاف مضاعفة لآثار طرقًا أخرى، ابن صعيد مصر نال من الشهرة والمنزلة حظًا لم ينله أحد غيره، فهو القارئ الشعبوي لعموم الناس، استطاع أن يتربع على عرش دولة التلاوة لقرابة نصف قرن من الزمان، وصل صوت للدنيا كلها، فكانت وما زالت تلاواته النادرة جواهر نفيسة تحلق بك إلى عالم آخر.
أيقونة قراء عصره، حظي مولانا الشيخ عبد الباسط عبد الصمد بالعديد من الألقاب فهو «صوت مكة»، «الحنجرة الذهبية» و«صوت السماء»، «سفير القرآن الكريم»، لكن اللقب الأهم له «كروان القرآن الكريم»، فأمام تجليات تلاوته تقف مذهولا حيث سهولة الأداء وطول النفس وقوة الصوت وعذوبته وقته، شديد الوضوح في الوقفات، كسر الصور النمطية للقارئ وخرج عنها؛ لديه أداء صوتي متقن وصادق يطوع صوته ليصل بك إلي معاني الذكر الحكيم بطريقة تجعلك تبكي من خشية الله، قال عنه مولانا الشيخ محمد متولي الشعراوي «الشيخ عبدالباسط عبدالصمد صاحب الصوت الجميل، هناك حلاوة في الصوت لديه»
منذ صغره، كان ابن مركز أرمنت بمحافظة الأقصر، صاحب جملةٍ من المواهب، حيث سرعة استيعابه لما أخذه من القرآن الكريم وشدة انتباهه، ودقته في القراءة وخروج الألفاظ والوقفات بحكمة شديدة بجانب عذوبة الصوت، وكان يُتلَى الذكر الحكيم بالبيت ليل نهار بكرةً وأصيلًا، فالجد الشيخ عبد الصمد من العلماء وكان من الحفظة المشهود لهم ووالده الشيخ محمد عبد الصمد، أحد المجودين المجيدين للقرآن حفظًا وتجويدًا، وجده لأمه العارف بالله الشيخ أبو داود المعروف بمدينة أرمنت، فأثرت نشأت بشكل واضح على موهبته.
ترك الشيخ عبد الباسط عبد الصمد للإذاعة ثروة من التسجيلات تتلى آناء الليل وأطراف النهار، إلى جانب المصحفين المرتل والمجود ومصاحف مرتلة لبلدان عربية وإسلامية، فجاب بلاد العالم سفيرًا لكتاب الله، وكان أول نقيب لقراء مصر سنة 1984، أتيح له أن يقرأ في الحرم المكي، والمسجد النبوي والمسجد الأقصى، والمسجد الأموي بدمشق، واليوم هي الذكرى 36 على رحيل صاحب الصوت العذب، ما زال صدى تلاوته يتردد في آفاق الدنيا، ولا زال يمتع نفوس السميعة بنفحاته العطرة الطيبة.