«بحق جاه حبيبك النبي وآل بيته»، نهاية كل دعاء يتضرع به المصريون إلى الله، يرددونه في وردهم اليومي، ويتوسلون به إلى رب العباد لقضاء حاجتهم، لإدراكهم للقيمة الكبرى لآل بيت المصطفى، فجاههم عند الله كبير، لا ينتهون من دعائهم إلا ويجبر الله كسرهم ويقضي حاجتهم ويفرج كربهم ويكشف عنهم همومهم بحق العترة النبوية المباركة وجدهم المصطفى.
محبة كبرى وعلاقة روحية عطرة تجمع مصر وأهلها بآل بيت النبي، حب مقدّس مرتبط بالوجدان الشعبي والعقل المجتمعي، تلك النعمة التي أكرمنا الله بها، بأن جعل أرض الكنانة مواطنًا للعترة الشريفة، أحب «آل المصطفي» أرض الكنانة، واختاروها الأكارم مأوى ومستقرا لشخصهم ولذريتهم للإقامة فيها، وبادلهم المصريون تلك المحبة، بقلوبهم وأرواحهم، فزينوا أضرحتهم ومقامتهم، وتراصوا أمام عتباتهم المقدسة يطلبون البركات، ويستجيرون بالخالق في حضرة الأطهار.
يشد المصريون الرحال للأربعة الكبار من سادة «آل البيت»، بـ«القاهرة»، حيث الشعور بالراحة والأمان والسكينة في رحابهم، جموع محتشدة مجذوبة حول أضرحة السادة الكرام، يتجهون لقراءة الفاتحة لصاحب الضريح، يجري على ألسنتهم ذكر الله، يدعون ربهم خوفًا وطمعًا، إحساس روحي يدفعك نحو البكاء، سلام داخلي وتصالح مع النفس لا مثيل له إلا في طيبة حيث المقام الشريف لسيد الأنبياء والمرسلين.
من بين هؤلاء السادة، يختص المصريون المحبة لستنا السيدة المكرمة الصالحة نفيسة ابنة سيدي حسن الأنور ابن الإمام زيد الأبلج، ابن مولانا الإمام الحسن السبط، ابن مولانا الإمام علي بن ابي طالب، من سيدتنا فاطمة الزهراء البتول، بضعة مولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم، تلك العابدة الزاهدة، صاحبة المشهد الكبير، يهرع إليها كل محب في كل مقصد، يحتشدون في حضرتها، يبيحون بالمكتوبات، ويسألون الله جبر خواطرهم، في حضرتها تنسي آلامك، تشعر بقرب من الفرج إنها حقًا هدية بيت النبوة للشعب المصري.
يُجمع علماء المسلمين على أنّ الدعاء مستجاب عند قبرها، فقد عرف عنها أنّها من الصالحات العابدات زاهدة حسنة العبادة، أظمأت نهارها بالصيام، وأقامت ليلها بالقيام، عرفت بالحق وتأييده، وإنكار الباطل واجتنابه، اجتهدت بالعبادة حتى أكرمها الله بكرامات عديدة، حفَظت القرآن وفسِّرته، كانت تقرأ كتاب الله وتَبكي، وقيل أنها حفرت قبرها الذي دُفنت فيه بيديها، وكانت تنزل فيه وتصلي كثيرًا، وقرأت فيه آيات الذكر الحكيم، حضرها الموت صائمة ورفضت أن تفطر، فقد سألت الله أن يٌقبض روحها صائمة، وكانت أخره مشهدها في الدنيا، قراءة سورة الأنعام، فلما وصلت إلى قوله تعالى «لَهُمْ دَارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ» فاضت روحها الطاهرة إلى بارئها، فبكاها أهل مصر، وحزنوا لموتها حزنًا شديدًا، وكان يومُ دفنِها يومًا مشهودًا.
سليلة البيت النبوي، شرفت مصر يوم السبت السادس والعشرون من رمضان في العام الثالث والتسعون بعد المئة من الهجرة النبوية، استقبلها أهل المحروسة في مدينة العريش أعظم استقبال وصحبوها إلى القاهرة، فأنزلها والي مصر منزلة رفيعة، وكان الناس يزدحمون عندها في كل مقصد، طلبًا للعلم والنصيحة، وذكر المؤرخون أنّها حجّت أكثر من 30 مرة سيرا على الأقدام، وكانت فيها تتعلق بأستار الكعبة وتقول «إلهي وسيدي ومولاي متعني وفرحني برضاك عني، ولا تسبب لي سبباً يحجبك عني».
«نفيسة العلم» ، كانت عالمة معلمة كجدتها السيدة زينب، تتلمذ على يدها أعظم علماء الأمة، إمام أهل السنة الأعظم ركن الإسلام الإمام محمد بن إدريس الشافعي، والذي توثقت صلته بها، وقال في محبتها ومحبة العترة النبوية «يا آل بيت رسول الله حبكم.. فرض من الله في القرآن أنزله.. يكفيكم من عظيم الفخر أنكم.. من لم يصل عليكم لا صلاة له»، واليوم يختتم المصريون احتفالاتهم بمولدها المبارك، حيث يتزن مقامها الطاهر، ويحتشد حوله المصريون في أجواء احتفالية تشهد إنشادًا ومدحًا، فهنيئًا لهم، ورضي الله عنها وأرضاها ستنا السيدة نفيسة، وصلى الله على جدها الأمين، سيدنا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين.