"طنطا الجامعى": البنك دون "نقطة دم"
جاءوا من القرى والمراكز، لاجئين إلى مستشفى طنطا الجامعى، ملاذهم الوحيد، من أجل تلقى العلاج، لحظات انتظار تمر كأنها الدهر أمام غرف العمليات، ينتظرون خروج ذويهم بفارغ الصبر، فيما يفقدون القدرة على التحكم فى أعصابهم، يهرولون خارج المستشفى، ويقطعون بضعة أمتار، ليشتروا ما طلبه منهم الأطباء من مستلزمات طبية قبل إجراء العملية بدقائق معدودة، يعدون ما فى جيوبهم من أموال، وهم قلقون خائفون من الحاجة، والعوز فى هذا الوقت قاتل.
أمام غرفة الولادة، تفترش «فتحية» الأرض، سيدة فى الثلاثين من عمرها، فى انتظار اختها التى تجرى عملية ولادة قيصرية، تتكئ على حقيبة فيها «بطانية» وملابس أحضرتها لأختها، وإلى جوارها حقيبة أخرى فيها طعام، قالت «فتحية» إنها اشترت كافة المستلزمات الطبية التى يحتاجها الأطباء لإجراء العملية، بعد أن تحججوا بعدم توافرها فى غرفة العمليات، مضيفة: «الممرضات فيهم ناس كويسة، وفيهم ناس بيعاملونا بعصبية، أنا قاعدة هنا علشان قالوا لى فيه تفتيش اطلعى بره».
جاء «عبدالله جواد»، برفقة أخيه «كمال» الذى أجرى عملية تركيب شرائح ومسامير فى ساقيه، إثر حادث تعرض له، وكتب له الطبيب ورقة بها كافة الطلبات والمستلزمات الخاصة بالعملية، من شرائح ومسامير ومضادات حيوية وخلافه.
قال «عبدالله»: «خرجت أجرى قبل ميعاد العملية واشتريت كل الطلبات، وأنا موجود هنا بقالى يومين، بيطلبونى فى أى وقت ولو الساعة 2 بعد نص الليل أروح أشترى أدوية وشاش وقطن، لزوم التغيير على الجرح».
وفى مستشفى الباطنة، تجلس «صفاء»، سيدة أربعينية، على السلم، حيث جاءت فى زيارة لزوجها المحجوز فى العناية المركزة، قالت إن الخدمة الطبية التى يقدمها المستشفى تعتبر جيدة، لأن الطبيب المشرف على حالة زوجها يتقى الله فى عمله، بينما يمتنع معظم طاقم التمريض عن أداء عمله، ويطالبونها «هى» بأن تتولى تغيير المحلول لزوجها، إضافة لأمور أخرى هى من صميم عمل التمريض.
وعن توافر سرير لزوجها فى العناية المركزة، قالت مقتضبة: «إحنا جينا تبع الدكتور اللى مدخله، كل حالة هنا ليها دكتور ساعد فى دخولها العناية، ويتابعها».[FirstQuote]
فى الدور الرابع، يوجد مرضى الكلى، فى عنبر ضخم يضم أكثر من 6 أسرة، كلها مشغولة بالمرضى، وإلى جوار كل منها مرافقوهم، قالت «زينب»، سيدة فى أواخر الأربعين، تبدو عليها ملامح الإرهاق الشديد، إنها موجودة مع والدتها منذ بداية شهر رمضان الماضى، وأن والدتها مريضة بالكلى، وتعانى من ماء زائد على الكبد.
تحمد «زينب» الله على توافر سرير لوالدتها فى المستشفى، وتتكلم بحذر وبكلمات مقتضبة: «الخدمة الطبية جيدة، ولكن لا يمر علينا الأطباء بشكل مستمر، ويرفضون الإجابة عن أى أسئلة نحتاج لمعرفتها»، وعن وجودها كمرافقة أوضحت أنها قضت نحو 3 أسابيع تنام على «بطانية» تفرشها على الأرض، وتتولى هى والمرافقون تنظيف العنبر ومسحه بأنفسهم.
فى الطريق إلى الطوارئ، تجد مجموعة من الأسرة المتحركة «الترولى» كلها من الصاج الصلب، مدهونة باللون الأزرق، ينام على أحدها مريض، دون أن تحدها أية مساند، يجرى به أهله عدة أمتار على أسفلت متكسر، ثم يتوقفون قليلاً، عندما يشير لهم المريض بالتوقف، فقد غلبه شعور الإعياء والغثيان، فيما يغلب على أهله شعور التعب والإرهاق و«التوهان»، فلا توجد أية علامات إرشادية، تمكنهم من معرفة مكان توجههم، يسألون كل من يقابلونه عن مكان إجراء الأشعة، وبعد مشوار طويل، يدركون أنهم فى مكان خطأ، لأن مريضهم يحتاج لأشعة رنين مغناطيسى وهم يقفون فى مكان إجراء الأشعة المقطعية، وهنا يبدأون رحلة جديدة للبحث عن هدفهم، فيقطعون بوالدهم المريض مشوراً آخر لمبنى خارج المستشفى.
تنتشر حالة من الفوضى فى مبنى الاستقبال والطوارئ، وسط زحام شديد، فالمرضى فى كل مكان، بعضهم ملقى على الأرض، ملامح الإرهاق والتعب واضحة على وجوههم، بينما الهواء رائحته كريهة وخانقة، الدماء تلطخ الأرض، والسلالم متسخة.
يجلس أحد المرضى وملابسه بالكامل ملطخة بالدماء، وإلى جواره أفراد أسرته، يتعالى صوتهم طلباً لخدمة طبية، أو سرير ينام عليه المريض، قال أحمد عاشور، ابن خال المريض، إنه تعرض لإصابات وجروح خطيرة نتيجة حادث «موتوسيكل» قبل يوم، وأنهم قضوا الليلة بأكملها فى الرواق الموجود فى الطوارئ، حيث نام المريض على الأرض، بعد أن ضمد أحد الأطباء جراحه، وقال له الطاقم الطبى إنه لا توجد أية أسرة فى المستشفى، حتى إن هناك سريراً ينام عليه طفلان مريضان.
أضاف «عاشور»: «خلاص إحنا جبنا آخرنا من البلد دى، يرضى مين يفضل نايم كده من إمبارح، إحنا هناخده حالاً ونمشى، ومش عايزين حاجة من الحكومة، شاطرين بس ياخدوا مننا ضرايب».
حسن رحيم، رجل أربعينى، أجرى جراحة تركيب شرائح فى يده، قال إنه يئس من انتظار توافر سرير له، فأحضر هو ما ينام عليه، حتى يتلقى الإشراف الطبى، يشكو «رحيم» من غياب النظافة بشكل عام، حتى فى دورة المياه والطوارئ والعنابر المشتركة، كل شىء يجعله يشعر بأن الوقت لا يمر، وأنه لا يتحسن، حتى طقم التمريض: «يعاملوننا وذوينا أسوأ معاملة، على الرغم من أننى اشتريت كافة المستلزمات الطبية، وأجريت الأشعة المقطعية على نفقتى الخاصة، ونتيجة لتلك المعاملة طلبت من زوجتى العودة إلى البيت، لأنه لا يوجد مكان لها كمرافقة، وقلت لها فى حال حاجتى لأى متطلبات سأتصل بها».
تابع «رحيم»: «أكتر حاجة ممكن تقلق البنى آدم، إنه يمرض فى البلد دى، لو معاه فلوس هيتعالج، ولو مامعهوش هيتبهدل وبرضه مش هيتعالج، الدكاترة اللى بيبصوا علينا شكلهم كلهم طلاب ومش عارفين حاجة».
فى بنك الدم الموجود فى المستشفى، لن تجد أية أكياس دم، وفقاً للموظفين، والحل الوحيد أمامك هو أن تذهب لأحد المعامل الخاصة، لشراء كيس الدم من هناك، قال أحمد زكريا، مرافق أحد المرضى، إنه حاول الحصول على كيس دم من البنك فقالوا له لا يوجد، دون أن يسأله الموظفون عن فصيلة الدم المطلوبة، ما اضطره إلى الذهاب لمعمل خاص خارج المستشفى لشراء ما يحتاجه من أكياس، مقابل التبرع بنفس الكمية للمعمل، ودفع 130 جنيهاً إضافية مقابل كل كيس.
وأضاف أحمد: «لو مش هتقدروا تتبرعوا، هتدفعوا مبلغ أكبر للمعمل أكتر من 200 جنيه لكل كيس»، قاطعته إحدى السيدات التى تبحث بدورها عن أكياس دم، لحالة زوجها الذى يجرى عملية جراحية، متسائلة «أجيب مين يتبرع لى بدم فى المعمل؟» قبل أن تخرج من البنك غاضبة لا تعرف كيف تتصرف.
أمام مستشفى الأمراض النفسية والعصبية، اجتمع عدد كبير من الأهالى، ووضعوا بطاطينهم وكافة مستلزمات حياتهم اليومية، استعداداً للمعيشة الكاملة، شكا معظمهم من غياب الخدمة الطبية لذويهم، حيث لا يتردد عليهم سوى طلبة كلية الطب، ويعجز بعضهم حتى عن إعطاء المرضى حقنة فى الوريد.
من الحالات التى توفيت داخل مستشفى الأمراض النفسية والعصبية، محمد عبدالله، الذى دخل مستشفى طنطا الجامعى إثر جلطة فى المخ، قالت زوجته «ريهام»، الأرملة الأربعينية، وعيناها متورمتان من كثرة البكاء: «التجربة اللى قضيتها فى المستشفى الجامعى، كابوس لن أنساه أبداً، فالأسرة فقدت عائلها الوحيد، تاركاً خلفه ثلاثة أبناء، أكبرهم طالبة فى الثانوية العامة»، وبدأت القصة عندما دخل زوجها مستشفى طنطا الجامعى فور شعوره بتعب شديد، وتم إدخاله الطوارئ مباشرة، ثم طالبوه بإجراء بعض الأشعة والفحوصات، فأخذت الزوجة تهرول بزوجها بين المبانى الضخمة، لإكمالها، وعندما انتهت من كافة الأشعة، كان قد مضى أكثر من خمس ساعات، انتظرت الطبيب لإغاثته فى مستشفى الأمراض النفسية والعصبية، ساعتين أخريين، إلى أن جاء تشخيص مرضه بأنه مصاب بجلطة فى المخ فى صبيحة اليوم التالى، وبذلك لم تكن الحقنة المعروفة بتفتيت الجلطة فعالة بالنسبة له لأنه قد مضى أكثر من 3 ساعات على إصابته.
وصفت «ريهام» أيامها فى المستشفى برفقة زوجها بالكارثية، بعد أن أدخلته غرفة العناية المركزة، قائلة: «كنت أذهب له كل صباح لأجد جسده كله كدمات، ولم يكن وقتها قادراً على الكلام، وعندما أسأل عن سبب الكدمات تقول لى الممرضة: (كنا بنقيده علشان ميفكش المحلول) وبعد يومين من احتجازه فى العناية المركزة، أصيب بالتهاب رئوى، بسبب التكييف وعدم مراعاة الممرضات للحالة الصحية للمرضى، ومرت الأيام ثقيلة مؤلمة، ولم أتمكن من نقله إلى مستشفى آخر، وانشغلت بتوفير ما يطلبه الأطباء من أشعة، وأدوية، على الرغم من أن المستشفى المفروض أنه يعالج الغلابة، وقبل وفاته بساعات قالوا لى اطلعى بره المستشفى، اعملى له تحاليل، وكنا عارفين إنه بيموت، وهم عاوزين يخلوا مسئوليتهم».
تابعت «ريهام»: «المستشفى لا يهتم بتوفير عربة إسعاف للمريض، فطلبت سيارة إسعاف ودفعت تكلفتها، ورفضت أى ممرضة الصعود معه لعربة الإسعاف، لمرافقة الحالة، حتى بعد توسلاتى لهن، وبالفعل مات محمد فى عربة الإسعاف فى طريق العودة من معمل التحاليل».
وأشارت «ريهام» إلى أن معظم الموجودين فى المستشفى لن يتحدثوا عن «البلاوى» التى يتعرضون لها، لأنهم يخافون من فقدان السرير فى المستشفى، ومن طردهم، لافتة إلى أن تأخر تشخيص مرض زوجها وما لاقاه من إهمال كان سبباً فى وفاته، خصوصاً أنه لم يكن يعانى من أى شىء قبلها.
وفى مشهد غريب وأثناء خروجنا من مستشفى طنطا الجامعى، لاحظنا وجود مدخنة تبعث دخانها بشكل مستمر، بجوار مستشفى الصدر التابع لجامعة طنطا، لم يعرف أحد سبباً لوجود تلك المدخنة بجوار المستشفى، إلا أن الأهالى وأصحاب الأكشاك، أبدوا تضررهم منها، وتعجبوا من وجودها إلى جوار مستشفى الصدر.