داخل «الجامع الكبير» في قريتي «نوي»، كان مولانا العارف بالله سيدنا الشيخ محمد عبد الغني درويش يجلس كل يوم، مُفترشًا الحصير يعلمنا كتاب الله، حيث وهب نفسه لخدمة كتاب الله، وتحفيظه لأبناء القرية.
علي صوت أذان الفجر يخرج مولانا الشيخ محمد بعمامته البيضاء الشهيرة من منزله القريب من المسجد يصلي الفجر جماعة، ثم يدخل القاعة الملاصقة للمسجد، يبلغ مجلسه ومن حوله يصطف الصبية على الأرض، في مراحل عمرية مختلفة، مرفوعى الهامات صامتين ينتظرون أن يقفوا بين يدي «سيِّدنا» ليرتلوا القرآن ترتيلًا.
كُتّاب مولانا الشيخ محمد عبد الغني، من أقدم الكتاتيب على مستوى المحافظة، وعلامة فارقة من علامات قريتنا، بل كان منارة دينية كبرى بمحافظة القليوبية، داخل جنبات هذا الصرح، تخرج كبار شخصيات قريتنا حافظين للذكر الحكيم، تعلَّموا قواعد القراءة والكتابة، وتربَّوا على المبادئ والأخلاق المحمدية، فأصبحوا بعد ذلك قادة فكر في المجتمع، منهم أجيالٌ من حمَلة كتاب الله ومُقرئون عظام، يُشار إليهم بالبنان في تلاوة كتاب الله وترتيله بجميع قراءاته.
لم تكن أى قرية أو حي يخلو من كُتاب على الأقل لتعليم الأطفال، فكانت «الكتاتيب» سراج نور لكافة بقاع مصر، وأول مؤسّسة تعليمية وتربوية، ومركزًا إسلاميًا رئيسيًا في تحفيظ الصغار القرآن الكريم ودراسة مبادئ الدين الحنيف، بعيدًا عن الغلو والتطرف، وكان سيدنا الشيخ يتمتّع بمنزلة عظيمة الأهمية في المجتمع، فهو المعلم والمربي للأبناء.
صدق الحسن البصري حين قال «أيها الناس إن هذا القرآن شفاء المؤمنين، وإمام المتقين، فمن اهتدى به هدى، ومن صرف عنه شقي وابتلي».
على يد «شيوخ الكتاتيب»، خرج لنا إمام الدعاة الشيخ محمد متولي الشعراوي، وسيد مدرسة التلاوة الشيخ محمد رفعت، وسلاطينها الكبار «المنشاوي» و«الحصري» و«عبد الباسط» و«البنا» و«إسماعيل» و«الطبلاوي»، حفظوا القرآن الكريم، تلاوة وتجويدًا، تخرج منه عميد الأدب العربي طه حسين، وآخرون ممن قادوا فكر المجتمع.
ظلت «الكتاتيب» تمارس دورًا كبيرًا في إحداث نهضة تعليمية بالقرى، وإرسال المتفوقين إلى التعلم في رحاب الأزهر الشريف، حتى طالته أيادي الإهمال حيث التيه والنسيان.
اليوم يعود مشروع الكتاتيب من جديد، برعاية واهتمام كبير من مولانا أ.د. أسامة الأزهري وزير الأوقاف، والذي يعيد إحياء تقليد أصيل في المجتمع بشكل عصري يتماشى مع روح العصر ويحافظ على دولة التلاوة المصرية؛ وتخريج مجموعة من الحُفاظ المهرة المتقنين باستخدام الأساليب المعاصرة لحفظ «كتاب الله»، وتعلم أحكام تلاوته، ومعرفة معانيه، والتعرف على أصول الدين الإسلامي، من خلال المنهج الوسطي المستنير، بأيدي نخبة مختارة من المحفظين، وذلك ضمن المبادرة الرئاسية «بداية جديدة لبناء الإنسان».
مبادرة «الأزهري» لعودة الكتاتيب من جديد، تكتب فصلًا جديدًا في مواجهة الفكر المتطرف وحماية القيم الأصيلة من التحديات الفكرية، حيث تعمل تلك المبادرة على تعزيز الدور الريادي لـ«الكُتاب» في تنشئة الأجيال على قيم القرآن الكريم ومبادئ الإسلام السمحة، واستقطاب الناشئة وتحصينهم، فتمثل تلك المبادرة نافذة لاكتشاف المواهب الواعدة في مجالي التلاوة والإنشاد، بما يساهم في إحياء الإرث العريق لدولة التلاوة المصرية.
بناء الشخصية المصرية على أسس الأخلاق الرفيعة والفهم العميق لمعاني الدين والانتماء الوطني، جزء أصيل من عمل الكتاتيب العصرية، فهى كما وصفها مولانا أسامة الأزهري «منارات تربوية وحصن الهوية الوطنية»، لتعزيز مكانة مصر كمنارة للوسطية والعلم وحفظ القرآن الكريم على المستوى العالمي.
مبادرة وزير الأوقاف ستساهم في غرس اللغة العربية السليمة في نفوس الأجيال الجديدة، بوصفها لغة القرآن الكريم وحصن الهوية، ووفقًا للخطة التي أعلنها الوزير، فإن وزارة الأوقاف ستعتمد التكنولوجيا الحديثة لتطوير منهجية التعليم في الكتاتيب، مع الحفاظ على هويتها الأصيلة.
أنتظرُ من مولانا أ.د. أسامة الأزهري تطوير «الكتاتيب» لتُصبح مركزًا لتعلم أحكام التجويد، والقراءات العشر «الصغرى والكبرى»، والإجازات، وتفسير كتاب الله بشكل يتناسب مع مقتضيات العصر، كذلك دراسة العلوم المتعلقة بآيات الذكر الحكيم، حتى تكون تلك «الكتاتيب» مراكز إشعاع لفكر الدين الحنيف وحصنًا منيعًا ضد جماعات التطرف والغلو وخطوة جديدة نحو تجديد الخطاب الديني.